معهد العالم العربي في باريس يحتفي بالساحرة المستديرة
كرة القدم ليست مجرد لعبة أو رياضة، فهي تتداخل مع مناطق أشمل وأكبر، قد تؤدي إلى حروب بين دول أو إسقاط أنظمة أو تحديد سياسات، وقد تؤدي إلى إنقاذ حياة الناس أيضا كما روى الكاتب الأورغواياني إدواردو غاليانو الذي يرى أنّ كرة القدم هي مرآة للعالم، وهي تقدم ألف حكاية وحكاية مهمة؛ فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس، وفيها يتبدّى الصراع بين الحرية والخوف. ومن هذا الدور المحوري انطلق معرض جديد حول كرة القدم في باحة معهد العالم العربي بباريس.
لا يمكن لأي زائر لباريس ألا يمر بجانب معهد العالم العربي على ضفة نهر السين، فعمارته الحديثة تغوي السياح والمارّة، كونه واحدا من معالم المدينة الثقافية التي تركت بصمة مميزة في مدينة الأنوار، لكن من يمر بجانبه الآن، يلاحظ أن ساحته تحوي ملعب كرة قدم، بمساحة 12X21 مترا، ويمكن للمارة والفضوليين أن يتابعوا فيها مباريات الهواة، بل ويمكن أيضا حجز الملعب مجانا ولعب مباراة وديّة مع الأصدقاء، خمسة لاعبين ضد خمسة لاعبين، لتتحول ساحة المعهد إلى فضاء للترفيه، سواء كان المرء يلعب أو يشجع، وكأن الكرة ذات تأثير سحري يأسر كلّ من حولها.
ملعب المدينة السابق أنشأه المعهد في إطار المعرض الذي يستضيفه بعنوان “كرة القدم والعالم العربيّ-ثورة الكرة المستديرة”، والذي نكتشف فيه دور كرة القدم في العالم العربي وفرنسا وعلاقتها مع الهوية الوطنية العربية وثوراتها التحررية، كذلك نشاهد كيف تحول المهاجرون من نجوم للكرة إلى محركين للخطاب السياسي والحكاية الوطنية الفرنسية، والأهم بإمكاننا مشاهدة كأسي العالم اللذين حازت عليهما فرنسا عامي 1998 و2018، لندخل عالما صاخبا مليئا بالسحر والسياسة والترفيه.
فضاء المعرض مصمم لنتبع توزع اللاعبين في ملعب كرة القدم، أي هناك 11 مفهوما يدور حولها المعرض، نشاهد فيها صورا فوتوغرافية من الأرشيف، ومقابلات وعددا من التجارب التفاعلية والكثير من الأغراض من أكف وكرات وأطقم ترسم تاريخ كرة القدم، لكن المثير للاهتمام هو ليس فقط اللعبة ذاتها، بل علاقتها مع السياسة، إذ نشاهد فقط مخططات الملاعب التي ستنشئها قطر، التي تستضيف كأس العالم عام 2022، وما يبدو للوهلة الأولى امتيازا عربيا، دون أي ذكر للعمال الذين قضوا في عمليات البناء هذه.
ذات الشيء نراه في مصر التي تستضيف كأس أمم أفريقيا، وهنا يشير المعرض إلى أن كرة القدم ليست إلا جزءا من الدعاية السياسية، ووسيلة لتلميع صورة هذين البلدين، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان والوضع السياسي فيهما، لتتحول اللعبة وسحرها إلى وسيلة لتبييض السمعة وتحريك الرأي العام الدولي بل وأحيانا تغييره.
نتعرف أيضا على دور كرة القدم في الصراع ضد الأنظمة الاستعمارية، إذ نشاهد صور وأطقم فريق كرة القدم الذي أنشأته جبهة التحرير الوطنيّة في الجزائر عام 1958، للنضال ضد فرنسا، الذي سمي حينها فريق الاستقلال، الذي استقال مؤسساه من فريقيهما الفرنسيّين في سبيل التعريف بقضيّة الجزائر التحررية في أنحاء أوروبا، كما نشاهد أيضا كرة مصنوعة من الإسمنت، أنجزها الفنان الفلسطيني خالد جرار، حيث نكتشف أن مكوناتها تعود لجدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل.
هذه العلاقة مع الأنظمة الاستعمارية وما بعدها تتجلى في شخص المغربي العربي بن مبارك الذي يكرس المعرض قسما خاصا له، كأول لاعب كرة قدم أفريقي نال شهرة كبيرة في أوروبا، فاللؤلؤة السوداء (هذا كان لقبه) الذي أسر قلوب المشاهدين يحضر في المعرض وزيه كواحد من الأشكال الثقافية للاستعمار وما بعده، وكأنه الأب الروحي لزين الدين زيدان ورشيد مخلوفي ومحمد صلاح، وغيرهم من المهاجرين والعرب الذين تحولوا إلى نجوم كرة القدم.
القسم الأكثر إثارة للاهتمام في المعرض هو الذي يتناول “الألتراز” في العالم العربي، أو المشجعين المتفانين في ولائهم لفرقهم، والدور الذي لعبوه في الربيع العربي، كما في مصر، وكيف أن تنظيمهم للمظاهرات والاحتجاجات كألتراز الأهلي والزمالك، لعب دورا في خلق صورة الربيع العربي واحتلال ميدان التحرير والمطالبة برحيل مبارك، ويشير المعرض إلى ما حدث في ستاد بورسعيد، والذي أدى إلى مقتل 74 شخصا والذي يقال إن ما حدث يومها كان مخططا له مسبقا، وليس نتاج أعمال شغب عاديّة، ذات هذا التأثير لعبه الألتراز في تونس، الذين ساهموا في تنظيم المظاهرات بل وربما ضبط حركة الكتلة البشريّة التي وقفت بوجه النظام السابق وساهمت في هرب الرئيس.
يتناول المعرض أيضا كرة القدم النسائية في الأردن وأيضا الدور الذي لعبته الكرة في لبنان، إلى جانب صور ووثائق متنوعة تكشف أثر هذه اللعبة ودورها كظاهرة ثقافية وسياسية لا يستهان بها، فهي ليست مجرد لعبة، بل أداة سياسيّة توظفها الحكومات وأحيانا الشعوب للمطالبة بسيادتها الذاتيّة.