دولة الأشكناز تصارح “يهود الحبشة”
كانت موافقة إسرائيل، على تهجير المواطنين الإثيوبيين من بلادهم إليها بأعداد كبيرة؛ مسألة جرى حولها منذ البداية، سجال إسرائيلي داخلي، من بين أسبابه تبرم العنصر الأشكنازي الأبيض، من العنصر الأسود، الأفريقي أو الهندي، بل من العنصر المتوسطي ذي الملامح العربية، كذلك الشكوك الكبيرة لدى الحاخامات، في يهودية الإثيوبيين. لكن التجربة الطويلة، التي مرت بها الحركة الصهيونية، وتحديدا في بدايات عملية الاستيطان في الجليل الفلسطيني، قد أسست لفكرة الاستعانة بالعنصر الأسود، لتدني أجره، ولخلو ذهنه من أي فكرة عن الأرض التي يعمل فيها أو قضية شعبها.
فمع تنامي شعور الفلسطينيين، بخطر التوسع الاستيطاني في أوائل العشرينات من القرن الماضي، تحسس رؤساء المستوطنات، خطر الاستعانة بالعامل العربي، لتجد الحركة الصهيونية نفسها، مضطرة للتعاطي مع مزاعم حاخامات يهود وفدوا إلى إثيوبيا، بأن هناك أقلية إثيوبية قديمة، ولا بد من نقل شبابها إلى فلسطين.
وفي العام 1926 سمح ممولو المستوطنات الأولى، بانتقال عمال إثيوبيين إلى مستوطناتهم كأُجراء أشبه بالعبيد. وتتحدث الدراسات الإسرائيلية عن ممارسات عنصرية مورست على الإثيوبيين الأوائل، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، من بينها تعرّض العشرات من الأسر السوداء إلى عمليات حقن بأمصال من شأنها إضعاف الخصوبة وإحباط التكاثر.
وبعد نحو أربعين سنة من تأسيس إسرائيل، وعندما تفاقمت الأحوال الاقتصادية – الاجتماعية في إثيوبيا، لاسيما في فترة ما يسمى “الإرهاب الإثيوبي الأحمر” أثناء حكم مانغيستو هيلا مريام (1987-1992) بدأ الحراك الإثيوبي إلى العاصمة أديس أبابا، من مناطق سكناهم في شمالها الشرقي. وكانت مجموعة “بيتا إسرائيل” التي سُميت “الفلاشا” قد نشطت كحزب أو رابطة اجتماعية، يمكن لمن ينتسب إليها أن يُعلن عن نفسه يهودياً. وقد استأنست تلك الجمعية بالعامل الجغرافي، لتحصر نشاطها في الأراضي المصنّفة على خارطة إثيوبيا، باعتبارها الحبشة التاريخية.
ومن بين مفارقات التلفيق أن تعليل الجمعية لسبب سواد البشرة، جاء بزعم أن الشتات هو الذي أوقع فيها اللون. فالحركة الصهيونية، تطلق على الطائفة اليهودية من مواطني أي بلد، صفة الجالية، علما بأن معنى الجالية، هو أن شريحة من السكان جلت عن وطنها الأصلي، واستقرت في وطن آخر، لذا فإن المواطن الروسي أو البلغاري أو الهندي، عندما يدخل الدين اليهودي، يصبح أحد أعضاء “الجالية” وكأنه ينحدر من عائلة كانت في فلسطين وجلت عنها، إلى البلد الجديد قبل الآلاف من السنين!
الحاخامات اليهود في إسرائيل، سمعوا نداءات “الفلاشا” التي تُطالب بالهجرة إلى إسرائيل، فشكلوا لجنة منهم، للتحقق من كونهم يهودا. كان الأشكناز منهم، يعتبرونهم سُبة في جبين العنصر الأبيض. أما السفارديم فقد كانوا ميالين إلى استجلابهم باعتبارهم يهودا، سواء كانوا يزعمون ذلك طلبا للهجرة الاقتصادية، أم مواطنين إثيوبيين دخلوا الدين اليهودي.
أما موقف الدولة، وبمنظورها الرأسمالي، فقد انحازت إلى فكرة التصديق والاستجلاب، لأن اقتصاد إسرائيل في حاجة إلى العمالة الرخيصة. وهكذا بدأ التهجير في العام 1990 بتواطؤ الرئيس السوداني آنذاك جعفر نميري. وصيغت الشعارات الصهيونية التي تبرر فتح باب الهجرة للمواطنين الإثيوبيين، وسميت عملية شلومي، لاستقطاب ما سمتها “الطوائف اليهودية”. وفي ذلك السياق استقبلت إسرائيل مئة وستين ألف إثيوبي، سرعان ما وجدوا أنفسهم، تحت رحمة نظام عنصري، يستغلهم ويتكتم على مشاعره منهم إن كانوا في الجيش أو يمارسون أعمالاً شاقة، ويفصح عن دواخله، كلما أراد الإثيوبي أن يتصرف كمواطن له الحق في الاحترام والمواطنة المتساوية.
كانت عملية التهجير متدرجة، وظلت الوكالة اليهودية تتحسب من مخاطر نقلهم بكثافة، وتجري في موازاة ذلك، ما سميت عملية “الإعادة إلى الديانة اليهودية”. وباشر الحاخامات اتصالات مكثّفة مع الحكومة الإسرائيلية ومع الإثيوبيين، للتحقق من وجود أدنى علاقة بين “الفلاشا” والتاريخ اليهودي. لكن القادة العسكريين الإسرائيليين، إيهود باراك وأمنون شاحاك وأرييل شارون، كانوا متحمسين لجلب عنصر بشري لتوسيع دائرة انتشار الجيش والزج بالمجندين الجدد إلى النقاط الساخنة في الأطراف.
وبادر إسحاق شامير، رئيس الوزراء في العام 1990، إلى الاتصال بالحاخامات الذين استوطنوا إثيوبيا قادمين من بلدان أخرى، وكان رأي هؤلاء أن التريث مطلوب والعملية يجب أن تكون منتظمة. لكن صيغة الأمر الذي تلقاه رئيس الأركان أمنون شاحاك من مكتب رئيس الوزراء، كانت تعكس قناعة الحكومة الإسرائيلية بأن معظم “الفلاشا” ليسوا يهودا، إذ جاء في التعليمات “ليكن البدء باليهود، ثم الآخرين”!
وعندما سيطر “حزب الشعب الثوري الإثيوبي” بزعامة هيلا مريام على البلاد، زحف المنتسبون لرابطة “الفلاشا” من منطقة كفارا الإثيوبية وغيرها، إلى العاصمة بأعداد كبيرة، يطالبون بالهجرة إلى إسرائيل.
إن الأحداث الجارية الآن، وهي تشبه الانتفاضة، كشفت أكثر فأكثر عن وجه إسرائيل العنصري، وسمعت تصريحات شخصيات ذات مسؤوليات سياسية مركزية، تصف الإثيوبيين بــ”الزنوج” و”الرعاع″ والمختلفين عن الإسرائيليين في كل شيء. ذلك سُمع بعد أن انفجرت احتجاجات الإثيوبيين على إثر مقتل شاب منهم برصاص رجل أمن إسرائيلي بزيّ مدني. كان الشاب مواطناً مدنياً لا يمثل أي نوع من الخطر أو الإخلال بالنظام، واستسهل رجل الأمن الإسرائيلي الأشكنازي قتله. وكان من تداعيات الغضب الأسود، أن وجدت الفئة البيضاء الغالبة نفسها تصارح العنصر الأسود، وتفصح عن حقيقة موقفها منه. فلم يعد هؤلاء، عند إسرائيل “يهود الحبشة”، وإنما محض زنوج ورعاع، يستحقون قطع نسلهم.