يهود الفلاشا.. انتفاضة الهامش على المركز
ما كان لحادثة اغتيال الشاب الإسرائيلي من الأصول الأثيوبية على يد أحد العناصر الأمنية الإسرائيلية أن تحدث كل التداعيات القائمة والقادمة في الكيان الصهيوني، لولا حالة العنصرية التي تنخر التجمع البشري في فلسطين المحتلة.
ذلك أنّ إسرائيل المركز بُنيت على تقدم الأشكيناز والسفارديم على كافة الأعراق الأخرى المهاجرة إليها، وعلى تفوق الجيش على باقي العناصر المؤسساتية الأخرى، وعلى علوية اليهودية الصهيونية على باقي الطوائف اليهودية الأخرى ناهيك عن الأديان المختلفة عنها.
وهو ما يفسّر الأسباب التي تجعل “الهوامش الإسرائيلية” من داخل الكيان، ونعني بها اليهود العرب أو اليهود الفلاشا، يتطبع لديها يقين المُواطنة الهامشية، حيث يتقدمها الأشكيناز والسفارديم في الوظائف والمراتب العليا وفي السيطرة على دوائر اتخاذ القرار في تل أبيب.
ولئن رُمنا التعمّق في مقولة يهودية إسرائيل، لوجدناها لا تعني اليهود بجميع طوائفهم وأعراقهم وإثنياتهم، بل تستوعب تراتبية عنصرية مقيتة تبدأ من اليهود الأشكيناز (غرب أوروبا وأميركا)، ثم السفارديم (يهود شرق أوروبا)، وفي مرحلة لاحقة اليهود العرب وأخيرا يهود الفلاشا.
وبمنأى عن الدعاية الصهيونية ليهود العالم، بالهجرة إلى فلسطين المحتلة، وبعيدا أيضا عن الصورة التسويقية والإشهارية التي تروّج إسرائيل عن نفسها بأنها أرض الميعاد، فإن عنصرية مؤسساتية مسلطة على يهود الفلاشا فاقت كل مجالات التصور والافتراض.
عنصرية تجاوزت الفيتو المرفوع من الدولة الإسرائيلية العميقة، ضد أية شخصية اعتبارية من يهود الفلاشا للوصول إلى الكنيست الإسرائيلي، أو حتى تبوؤ المناصب الكبرى في الأحزاب التقليدية، ليصل الفيتو إلى حد منع اختلاط دم يهود الفلاشا بدماء باقي متساكني الكيان الصهيوني.
ورغم المُظاهرات الاحتجاجية التي نظمها اليهود الفلاشا، ضد الإجراءات العنصرية في إسرائيل، إلا أن المستشفيات الإسرائيلية لا تزال ترفض تبرعاتهم بالدم، مدفوعة بقرارات مقيتة من المؤسسة الدينية اليهودية المشككة في انتمائهم إلى الديانة اليهودية.
إسرائيل التي بنت سرديتها المظلومية على فكرة الغيتو الثقافي واللغوي والديني في أوروبا، زمن مُعاداة السامية، أسقطت على يهود الفلاشا بشكل خاص واليهود المغاربة بشكل أعم، عنصرية جغرافية من خلال دفعهم إلى السكن في غيتوات شبه مغلقة في جنوب النقب، حيث باتت الأخيرة بؤرا للجريمة المنظمة والدعارة والفشل المجتمعي.
كلّ هذه المُقدمّات تفسر جزئيا، واقع الصدام الحاصل بين المركز والهامش، وراهن النزاع القائم بين السلطة العميقة والشتات المجتمعي المُغترب، إلا أنها لا تقدم كل الإجابات عن سؤال الأزمة الراهنة في الكيان الصهيوني.
فإسرائيل استفادت كثيرا من يهود الفلاشا وحولتهم إلى كيان اجتماعي وظيفي موكول له تأمين عدة مهام، وهي المراتب السفلى من الجيش، والوظائف التي يستنكف الباقون تأديتها، وأساسا توظيفهم ماديا ورمزيا للتغلغل في أفريقيا وبناء مصالح اقتصادية وعسكرية في منطقة القرن الأفريقي.
وبعد أن نالت إسرائيل مآربها الإستراتيجية من منطقة الحبشة، وصارت لها مواقع مؤثرة ومتقدمة في القارة الأفريقية، لم يعد ليهود الحبشة دور حصان طروادة للغزو الناعم للقرن الأفريقي تحت عنوان التنوع الديني في إسرائيل وتوفير إسرائيل فرصَ عمل للمهاجرين إليها من يهود الحبشة.
وكما استحال يهود أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، فائضا وظيفيا أفضى إلى تهجيرهم نحو فلسطين المحتلة بعد أن كانوا جماعات وظيفية، فإن يهود الفلاشا سُرعان ما أصبحوا زائدا وظيفيا عن الحاجة صلب الكيان الإسرائيلي عقب سنوات من استغلالهم داخليا وخارجيا.
وعندما تشعر جماعة إثنية بأنها فائض بشري خارج عن الصيرورة المجتمعية، فهي إما تختار الاحتراب الذاتي والانتحار الجمعي وهو ما تدفعهم إليه إسرائيل عبر غيتوات الفقر والدعارة والجريمة، وإما تختار المواجهة مع الجماعات النافذة والسلطات الحاكمة وهو ما يسعى إليه يهود الفلاشا الآن.
ما يحصل في الكيان الصهيوني مثير للاهتمام، لا فقط لأن الحاصل يعري أكذوبة الديمقراطية الإسرائيلية ويكشف الوجه البشع للعنصرية الصهيونية، بل يؤكد أنّها عنصرية متأصلة لا تتوجه فقط لبناء الجدران الفاصلة بين إسرائيل والفلسطينيين، بل تشيد جدرانا عازلة بين حاملي جنسيتها وأتباع ملّتها.