السلطة الرابعة تبقي على أعينها داخل الإليزيه
سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وضع مسافة بين “الإليزيه” والسلطة الرابعة في بلاده والحدّ من دخول وسائل الإعلام إلى داخل مقر إدارة السلطة في البلاد، ما تسبب في تعقيد علاقته بوسائل الإعلام وألقى بظلاله على السياسة الفرنسية بشكل عام. ودفع ذلك الرئيس الفرنسي إلى التراجع عن قراره والإعلان على إبقاء غرفة الصحافيين كما هي داخل قصر الإليزيه في إطار سعيه لإصلاح علاقته المضطربة بوسائل الإعلام.
أنهى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جدلا حول طبيعة العلاقة بين القصر الرئاسي ووسائل الإعلام الفرنسية بعد قرار مثير للجدل اتخذ في بداية عهده قضى بالتحضير لنقل القاعة المخصصة للصحافيين إلى خارج فناء القصر.
ويعني هذا القرار أن الرئيس الفرنسي خسر المواجهة مع الصحافة في بلاده وأذعن للنصائح التي تلقاها بعدم إحداث قطيعة بين القصر والإعلام، والاستمرار في الحفاظ على العلاقات التقليدية التي لطالما نسجت بين الرئاسة الفرنسية ومنابر الإعلام في فرنسا.
وأعلن قصر الإليزيه، الجمعة، عن إبقاء هذه الغرفة داخل فناء القصر الرئاسي منهيا توترا في علاقة الإليزيه بالصحافة الفرنسية. وتنم تلك المبادرة التصالحية عن تغير جديد في استراتيجية ماكرون للتواصل بشكل عام والتي اتسمت في بداية ولايته بمحاولة تجنب الصحافيين.
وأعلن ماكرون هذه الخطوة في رسالة وجهها كبير مساعديه ألكسي كولير إلى رابطة صحافيي الرئاسة الفرنسية. ويعود إنشاء قاعة الصحافة الرئاسية إلى السنوات الأولى للجمهورية الخامسة، في عهد الجنرال شارل ديغول.
وأنشأت القاعة لأول مرة في مبنى ملحق، ثم تم نقلها إلى داخل القصر في عهد الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان، قبل
أن تنقل في عام 1984 في عهد فرنسوا ميتران إلى الفناء الرئيسي، من أجل مزيد من الشفافية. وقد تم توسيع القاعة خلال رئاسة نيكولا ساركوزي.
وكانت وسائل إعلام فرنسية، من بينها صحيفتا لو موند وليبراسيون، استنكرت في ذلك الوقت القرار، وقالت إنه يقوض قواعد الشفافية والمحاسبة بما يثير تساؤلات بشأن ليبرالية ماكرون. وبرر الإليزيه هذا القرار آنذاك بالحاجة إلى تكريس هذه المساحة لتحويلها إلى قاعة اجتماعات جديدة للمستشارين، وفي الوقت نفسه، بالرغبة في “توفير ظروف عمل محسّنة” للصحافة.
قرار بقاء غرفة الصحافيين داخل قصر الإليزيه مبادرة تصالحية تنمّ عن تغير آخر في استراتيجية ماكرون للتواصل التي اتسمت في بداية ولايته بمحاولة تجنب الصحافيين
غير أن الصحافة اعتبرت أن رئيس البلاد يودّ إبعاد الصحافيين عن مركز السلطة والقرار وتحويل القصر الرئاسي إلى “قلعة”. وكرست الصحافة الأجنبية العديد من المقالات تعليقا على هذا القرار، مشيرة إلى أن دونالد ترامب حاول أيضا إغلاق قاعة الصحافة بالبيت الأبيض قبل التخلي عن ذلك بسبب غضب الصحافيين.
وعلى ما يبدو كان ماكرون يريد أن يكون مختلفا عن سلفه فرنسوا هولاند الذي كان شديد القرب من الصحافة، وأراد وضع مسافة بين “القصر” والسلطة الرابعة في بلاده.
وتعود الأزمة إلى استياء أوساط الرئيس الفرنسي من التغطية التي اعتمدتها وسائل الإعلام الفرنسية للأزمات التي اعترضت مسيرة حكم ماكرون منذ انتخابه عام 2017، خصوصا تلك التي تعلقت باندلاع ظاهرة السترات الصفراء خلال الأشهر الأخيرة.
غير أن خبراء في الشؤون الفرنسية رأوا أن الجدل ما بين الإعلام والسلطة ليس جديدا، وأن معارك لافتة خيضت بين الطرفين خلال الجمهورية الخامسة الحالية، وصلت إلى حد أن الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران وصف بعض وسائل الإعلام بـ”الكلاب المسعورة”. وجاء هذا الوصف على إثر انتحار رئيس الوزراء السابق بيار بيريغوفوا في مايو 1993 إثر حملة صحافية شككت في نزاهته.
وأشادت رابطة صحافيي الرئاسة الفرنسية بقرار الإليزيه الجديد و”رحبت بالنتيجة الإيجابية لهذه القضية، والتي تسببت في الكثير من القلق” بين الصحافيين. وخاطب الإليزيه الرابطة التي تضم وسائل الإعلام التي تغطي أخبار رئاسة الجمهورية مؤكدا أن إيمانويل ماكرون أصغى لـ”هذا القلق الشديد”.
وجاء في الرسالة أن ماكرون “استمع للمخاوف العميقة” التي عبر عنها الصحافيون. وعبرت رابطة الصحافيين التي ترأسها صحافية رويترز، إليزابيث بينو، عن ترحيبها بالقرار.
وبعد عامين من التوتر، يسعى الرئيس الفرنسي إلى تهدئة العلاقات مع الصحافة، وذلك في سياق “تغيير الأسلوب” الذي تم الإعلان عنه للفصل الثاني من عهده في الإليزيه كواحد من القرارات المتخذة إثر “النقاش الوطني” الذي نُظم لمواجهة أزمة السترات الصفراء.
وكان ماكرون وافق، في أبريل الماضي، على عقد أول مؤتمر صحافي له في فرنسا، كما أبدى استعداده للمزيد من الإطلالات مع الصحافيين. غير أن توتر العلاقة بين الرئيس والصحافة يفصح أيضا عن شعور لدى السلطات الفرنسية بأن صحافة فرنسا لا تعبّر عن خيارات الحكومة الفرنسية، ما يزيد من توسّع المسافة ما بين استراتيجية الرئاسة وبقية التكتلات السياسية والنقابية والشعبية.
وتطرح بعض الأوساط أسئلة حول مدى استجابة الإعلام الفرنسي الموجه إلى الخارج، لاسيما إلى الشرق الأوسط (راديو مونت كارولو وفرنسا 24)، لمتطلبات السياسة الخارجية الفرنسية. وتقول هذه الأوساط إن الأداء الذي توفره هذه المنابر لا يعكس التحوّلات التي أدخلها ماكرون في السياسة الخارجية لبلاده في الملفات المتعلقة بالعالم العربي وتركيا وإيران.
أزمة ماكرون مع الصحافة المحلية قد يكون لها صدى قد يدفع الأذرع الإعلامية الفرنسية الموجهة إلى الخارج إلى أن تكون أكثر إنصاتا للخيارات الدبلوماسية التي يعبر عنها قصر الرئاسة كما وزارة الخارجية الفرنسية، خصوصا أن التطورات في الشرق الأوسط شديدة الحركة وتستلزم رشاقة عالية لفهم التحولات في المنطقة ولنقل المقاربات الفرنسية الرسمية لهذه التحولات.