البكاء على الغرباء
“الثقة المتبادلة بين الناس تعزز العلاقات الاجتماعية وتقلل من الإجهاد عموما، وهما أمران يرتبطان بصحة أكثر وبعمر أطول”، هذا ما توصلت إليه إحدى الدراسات، إلا أن النتائج على أرض الواقع قاتمة بالنظر إلى مجتمعات العالم التي بات يسود فيها هاجس التوجس والخوف من الآخرين، ويفرض على الكثيرين الشعور بالريبة والحذر في تعاملاتهم مع الغير. لكن الأسوأ من هذا كله أن هناك من يصل بهم الأمر إلى حد التطرف في تصرفاتهم تجاه غيرهم، والذي قد لا يكون له ما يبرره في معظم الأحيان.
أَسترجِع هنا مرحلة بعيدة من طفولتي طواها الزمن لكنها ما زالت عالقة في ذهني، عندما كان جدي يستقبل في بيت العائلة الكبير عابري السبيل القادمين من مدن تبعد مئات الأميال بهدف التجارة أو شراء المنتوجات الفلاحية من حقله، وكيف كان لا يوفر لهم فراشا وغرفة للنوم فيها فحسب، بل يدعوهم إلى المشاركة في طعامنا عن طيب خاطر وسخاء، كما لو كانوا أفرادا من العائلة الموسعة، فقد مرت ببيت جدي المتواضع أعداد لا حصر لها من التجار وعابري السبيل من دون أن يطلب جدي بطاقات هوياتهم أو يسألهم عن أصلهم وفصلهم.
أما اليوم، فقد أصبح معظم الناس يشعرون بالقلق والتهديد والارتياب من الغرباء، ويكثرون من بناء الأسوار المحيطة بمنازلهم، وتبالغ الحكومات في وضع القوانين المتشددة لتحصين أمن الحدود بين البلدان، في وقت أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وقوضت التكنولوجيا جميع المسافات.
هناك العديد من الأمثلة الحية على الصراعات والصدامات ومشاعر الكراهية التي أصبحت سائدة بين الناس. وهذه الموجة من العداء، لا تقتصر على بلد بعينه، بل غدت ظاهرة عالمية.
ووفقا لبعض الأبحاث، فإن الناس يشعرون بالقلق تجاه “الأجانب أو الغرباء”، عند ملاحظة أي تحد لمعتقداتهم الخاصة، ما يمكن أن يساهم في استشراء ظاهرة العنف والجريمة في المجتمعات.
وقد شهدت مدينة إسطنبول التركية مؤخرا حملات تحريض وعنف ممنهج ضد اللاجئين السوريين تبادلت فيها الأحزاب التركية الاتهامات بتأجيج الكراهية ضد اللاجئين السوريين، واستغلال الحوادث الناجمة عنها من أجل أغراض سياسية.
ومثل هذا الأمر يحيلنا على حالة الاستعلاء الطائفي والعرقي والديني التي تروّج لها الجماعات المتشددة والتيارات والأحزاب الدينية المتطرفة في بعض المجتمعات، كوسيلة لاستمالة الناس وتقوية مشاعر السطوة والانتماء إليها.
وقد ساهمت بعض وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية في تأييد النظريات المتحيزة والأفكار المتعصبة، فمثلا تم استخدام فيسبوك للتحريض على التطهير العرقي ضد أقلية الروهينغا في ميانمار.
وكشفت مجموعة “حملة ميانمار في بريطانيا” أن فيسبوك أتاح منصته لنشر التحريض على الكراهية والعنف ضد أقلية الروهينغا والمسلمين عموما في ميانمار.
وأشارت المجموعة إلى شركات تكنولوجية أخرى متعاقدة مع النظام في ميانمار المُتهم بارتكاب جرائم حرب ضد أقلية الروهينغا التي فر منها نحو مليون شخص منذ العام الماضي، هربا من المجازر التي شنها جيش ميانمار وميليشيات بوذية متطرفة.
ويعيد هذا إلى الذهن الكثير من المواقف المشابهة في عدة دول عربية، حوصرت فيها الأقليات بأعمال العنف والتهجير والمساومات السياسية الخارجة عن إرادتها.
تكمن المشكلة في أن الرسائل السلبية والعدائية تجاه الغير، يمكن أن تأتي من جهات عدة، من بينها العائلة والمدرسة ووسائل الإعلام والإنترنت، كما يمكن لعدم التسامح أن ينتقل خفية كالعدوى بين الناس، عبر الشتائم وتعبيرات الازدراء والأفكار المتعصبة.
وعندما يُضمر الناس قدرا كبيرا من مشاعر الحقد والضغينة والكراهية داخلهم تجاه بعضهم البعض يمكن أن يتحول ذلك إلى مرض نفسي يستشري في المجتمع فيدمر العلاقات بين أفراده، ويساهم في انتشار العنف، وإذا انتشر العنف سيكون من الصعب تفادي انهيار الدول. وقد كشفت مؤسسة “بروغريس إمبراتيف” الاجتماعية العالمية غير الربحية ومقرها الولايات المتحدة أن العالم أصبح مكانا أكثر تعصبا وعداء، من خلال دراسة شملت نحو 98 في المئة من سكان العالم.
وتوصلت الدراسة التي أجريت عام 2017 إلى نتائج خطيرة للغاية، ففي الوقت الذي سجلت فيه دول بعض الإصلاحات الفردية، شهدت العديد من الدول الأخرى تراجعا في الحقوق الشخصية لمواطنيها، وهو اتجاه يبطئ التقدم العام في جميع أنحاء العالم.
ويشير تقرير المؤسسة إلى أنه في الكثير من مناطق العالم يواجه الناس حاليا “اضطرابات شديدة” تتسم بعدم التسامح مع المهاجرين والأقليات والجماعات الدينية.
ولطالما شهد العالم أعمال عنف شنيعة بدوافع واهية غذاها أصحاب الأفكار الظلامية، كالعبودية والقتل والاغتصاب وتفجير النفس وقتل الأبرياء بهدف الحصول على الشهادة. وقد نجد أن أبشع الجرائم الإنسانية كانت مشفوعة بأكبر عدد من التحيزات والحجج والمفاهيم الخاطئة، ولهذا يستدعي الرد عليها وتفنيدها التفكير في وجهات النظر المضادة.
خلاصة القول: إذا أراد أي مجتمع أن يصل إلى أعلى مستويات الرفاهية والتطور، ما عليه سوى الاحتكام إلى العقل، والتمسك بالقيم المعنوية والعلاقات الودية والوسطية في النظر إلى العقائد والأديان.