الأشرار ينتظرون
مثلما يمكن لبعضنا أن يستخف بالمخاطر، فإن الشعوب يمكنها أن تقع في الفخ ذاته. والجزائر إنما تقف أمام فخ كبير يمكنه أن يلتهم البلد بأسره. الجزائريون يعرفون هذا النوع من الفخاخ. فهذه ليست تجربتهم الأولى. فهل يليق بأحد أن يُلدغ من الجحر مرتين؟
لقد قدم الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح، عرضا من أجل حوار وطني، شفاف ومفتوح ولا تشارك فيه الدولة ولا الجيش، من أجل وضع أسس لانتخابات رئاسية وبرلمانية، يفترض أن تُسفر عن نظام جديد.
إنه واحد ممّن يطالب الجزائريون بتغييره مع رئيس وزرائه ورئيس أركان جيشه. ولكن من قال إنه يرفض؟ ومن قال إنهم يرفضون؟ هذا رجل يعرف تماما، وهو الذي يتلقى علاجا للسرطان، أن وقته قد أزف، ليس مع السلطة، بل مع الحياة بأسرها، وهو يريد أن يسلم عهدته إلى يد تؤتمَن عليها. “ويحسن بكل ذي خلق، أن يدعو له بالشفاء، والأمن، وأن يعطف عليه، ويتلطف به، رحمة للنفس”.
ولكن الجزائر تبدو اليوم شقاء تاما، على نفسها بالدرجة الأولى. ثمة فوضى يحسن تحاشيها. ثمة نزعة انتقام يحسن التعالي فوقها. وثمة ميل إلى استعراض عضلات شعبوي يحسن التكابر عليه. الجزائر، لمن يحبها، أكبر من هذا وذاك وذلك. فليتق ربه مَنْ يريد أن يأخذ بالفوضى إلى فشل شامل.
نفهم أن الحراك الشعبي لم يبرد. الجزائريون الذين يواصلون التظاهرات من أجل بناء نظام جديد، لا يزالون يحتفظون بالعزيمة نفسها بحثا عن جمهورية ثانية. إلا أن الفراغ قائم. وككل فراغ، فإنه يثير المخاوف من أن تقع ثمرة الحراك، في حضن الطرف الخطأ. حصل ذلك في غير بلد عربي اندلع فيه حراك من أجل نظام يحترم قيم الحرية والعدالة والمساواة. الفراغ هنا وهناك ملأه أيديولوجيون يعرفون كيف ينقضّون في الوقت المناسب، ليقيموا نظاما ينتهي بتدمير كل شيء، بما في ذلك فكرة النظام نفسها.
وهؤلاء من نمط التطرف الذي يُظهر وجه الاعتدال ويخفي أنياب الذئاب. لا يخشون القول إن الديمقراطية سلم يصلح للاستخدام لمرة واحدة. يرتقوه لأنفسهم ثم يركلوه.
ولئن ظل الجزائريون يطالبون بتغيير النظام بكل أركانه، فإنهم لم يقدموا بديلا بعد. ولا تجرأت أطراف المعارضة الوطنية على تقديم بديل. والكل يخشى أن يُواجه بالرفض. إلا الذين يبحثون عن فرصة لكي يكشروا عن أنياب دكتاتورية بديلة تنقض على ما قبلها لتحكم إلى الأبد. تواطأوا مع كل أشكال الفساد بزعم الاعتدال. وتحالفوا مع كل نظم الطغيان. وهم ينتظرون الجزائر لكي تسقط في طغيان جديد يحكم باسم مقدّس آخر غير مقدّس الاستقلال الذي حكمت به جبهة التحرير الوطني.
أرسلوا قبل قليل رسائل الغزل إلى الجيش، باعتباره القوة الوحيدة الباقية. قبله كانوا يغازلون نظام بوتفليقة بسعيده وعبدالعزيزه وأويحياه. وهم ينتظرون الفرصة لكي يملأوا الفراغ الذي تُرك لهم لكي يملأوه.
لم يشاركوا في الحراك. ولا هم كانوا قوة تغيير من الأساس. وعاشوا على فضيلة التواطؤ والاعتدال المخادع. ولكنهم القوة المنظمة الوحيدة التي تعرف ما تريد. لقد أنجز الحراك نصف المهمة. ولكن النصف الآخر لا يزال غامضا. احتجز الفاسدون. ولكن الحراك نفسه محتجز بحيرته ذاتها ونقص بدائله. الحراك في الجزائر لا يبدو ضائعا إلا لأنه لم يكشف عن قيادة تجرؤ على تحديد جدول أعمال وطني للتغيير. ثمة فراغ. الكل ينتظر. والأشرار ينتظرون.