في البحث عن الكتب الضائعة
يبدو أن المغاربة لم ينسوا بعد مخطوطاتهم ولا مكتباتهم التي حجزتها جارتهم إسبانيا في أكثر من لحظة وفي أكثر من سياق. وذلك ابتداء من ضياع وإحراق العديد من ذخائر مخطوطات الأندلسيين خلال محاكم التفتيش وطرد المسلمين واليهود من البلد، وانتهاء بالسطو على المكتبة الزيدانية، من طرف قراصنة إسبان، وتحويلها إلى دير الإسكوريال، بأمر من الملك فيليب الثالث.
أما المغرب فسيطالب في لحظات متباعدة باسترجاع المكتبة، اعتبارا لرمزية ملكيتها من طرف سلطان مغربي، وأيضا لأهمية رصيدها الذي كان يضم عددا من المخطوطات بلغاتها المتعددة، سواء العربية منها أو اللاتينية، أو العبرية. ومنها كثير من المخطوطات النادرة، ومن بينها النسخة الوحيدة من مخطوطة ابن خلدون “لباب المحصل في أصول الدين”، وهي اختصار لكتاب “محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين” لفخرالدين الرازي، وهي نسخة بخط ابن خلدون، بالإضافة إلى الكامل في اللغة للمبرد، والاقتضاب في شرح أدب الكُتَاب لابن السيد البطليوسي.
وسيكون موضوع المكتبة حاضرا في عدد من الرحلات السفارية، ومنها رحلة محمد المدعو حمو بن عبدالوهاب الوزير الغساني، التي قام بها بتكليف من السلطان إسماعيل بن الشريف، ورحلة أحمد الغزال، سفير محمد الثالث، ثم رحلة محمد بن عثمان المكناسي، التي قام بها بتكليف من نفس السلطات. وإن كان جميع السفراء عادوا إلى بلدهم، تسبقهم خيبتهم.
بعد قرون عن ذلك، ستحصل المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط على نسخة ميكروفيلمية للتراث العربي المخطوط بالإسكوريال، وذلك بعد أربع عشرة سنة على إهداء إسبانيا لنسخة مماثلة إلى مكتبة الإسكندرية. وإن كان ذلك لا يجب أن ينهي الموضوع، ولا أن ينسيه. إذ أن مآل المخطوطات الأصلية يجب أن يكون بلدها الأصلي الذي هو المغرب، خصوصا أنها ضاعت في ظروف سرقة موصوفة مع سبق الإصرار.
وفي جميع الأحول، يُسجَّل للبلد حرصُه، على الأقل، على عدم تناسي الموضوع. في مقابل ذلك، تبدو كثير من الدول العربية غير معنية بأرصدتها من المخطوطات، التي سافرت في ظروف خاصة إلى مكتبات العالم، بعيدا عن موئلها الأصلي والطبيعي. ولعل ذلك يهم أغلب المكتبات الكبرى الأوروبية، التي انتبهت، خصوصا ابتداء من القرن السابع عشر، إلى أهمية الكنوز العربية على مستوى المخطوطات، لما تمثله من أهمية معرفية وجمالية.
ولذلك كان عاديا أن ينتقل عدد المخطوطات الموجودة بمكتبة الملوك بفرنسا، والتي تشكل أحد مصادر أرصدة المكتبة الوطنية بفرنسا، من خمس مجلات فقط إلى ما يناهز الثلاثة آلاف مجلد خلال نهاية القرن التاسع عشر، وهو العدد الذي يغطيه “فهرس المخطوطات العربية”، الذي كانت قد نشرته المكتبة خلال نفس الفترة، وأعدّه البارون دي سلان، المستشرق الذي اشتهر بترجمته لقسم من كتاب ابن خلدون “كتاب العبر وديوان المبتداء والخبر”، إلى الفرنسية، بالإضافة إلى نشره لديوان امرؤ القيس، مرفقا بترجمته إلى الفرنسية.
ولم يكن فهرس البارون دي سلان الأول ولا الأخير، وذلك دلالة على الأقل على ما حظيت به المخطوطات العربية من اهتمام غربي، قد لا نجد نظيرا له في البلدان العربية صاحبة المخطوطات. إذ يعود الفهرس الأول إلى نهايات القرن السابع عشر، وقد أعده بطرس دياب الحلبي، وهو سوري كان يُعرف باسم ببير ديبي.
بينما ستحرص المكتبة الوطنية الفرنسية، التي يقارب حاليا عدد مخطوطاتها العربية الثمانية آلاف عنوان، على رقمنة رصيد هام من المخطوطات العربية، وإتاحتها لعموم القراء، عبر موقعها الشهير غاليكا. وذلك في اللحظة التي تَعتبر كثير من مكتباتنا وثائقَها رصيدا سريا، يجب التستر عليه، ضدا على وظيفة المكتبة، الهادفة إلى دمقرطة المعرفة.
ولن تخرج مكتبة الكونغرس الشهيرة عن الاهتمام بالمخطوطات العربية، بالإضافة إلى اقتنائها أغلب ما يطبع بمجمل البلدان العربية. وهو ما يشكل امتدادا للطابع الكوني الذي تسعى مكتبة الكونغرس إلى تحقيقه باستمرار، على مستوى رصيدها. وذلك انسجاما مع مبدأ توفر المكتبة على كل وثائق المجتمعات الأخرى، التي تُدَوّن لماضي وحاضر هذه المجتمعات، والتي يمكن أن تَهم بشكل مباشر القارئ الأميركي.
وإذا كانت المخطوطات العربية، في كل هذه الحالات وغيرها، قد وجدت في جميع الأحوال الأيادي التي تهتم بها ضد عوامل التلف، التي تجتاح كثيرا من مكتباتنا، فثمة كثير من الأعمال الهامة الضائعة، التي تبدو كأشباح تطل علينا فقط عبر عناوينها أو أسماء كتّابها. وهو الأمر الذي يعكسه كتاب “شذرات من كتب مفقودة”، الذي خصصه إحسان عباس، قبل سنوات، لثلاثين كتابا في حكم المفقود. وإن كان عدد المؤلفات الضائعة أكبر من ذلك بكثير.
خلال نهايات القرن التاسع عشر، أصدر الناشر البريطاني كتابه الشهير “أعداء الكِتاب”.
ولعله الأول من نوعه الذي استطاع أن يرسم بكثير من الدقة والتفاصيل قصص ضياع عدد ضخم من الكتب الفريدة والمكتبات الكبرى. وسَيليه، بعد أكثر من قرن، كتابُ الباحث الفرنسي ليوسيان بولاستون “كتب تحترق، تاريخ تدمير المكتبات”، الذي يقدم رحلة مذهلة عن جرائم إحراق الكتب والمكتبات، تبدأ وتنتهي بمكتبة الإسكندرية، مارة عبر حقب التاريخ الحافل بحالاته المرعبة التي أتت على تراث معرفي لا يقدّر ثمنه.
وبذلك، فإن سفر المخطوطات وضياعها لا يهم فقط العالم العربي. فطيلة التاريخ البشري ضاعت مكتبات كبرى، بفعل الفيضانات، أو بسبب غياب شروط الحفظ، أو بسبب السرقة، واحترقت أو أُحْرقت مكتبات أخرى. وحدها الأفكار لا تحترق.