ماذا بقي للبوليزاريو؟
رايات ترتفع هنا وأعلام تعلو هناك ومقار وبعثات دبلوماسية في هذه العاصمة وتلك، وأموال ومساعدات وتشريفات تعطى لرجالات الصف الأول، مع عدد محدود جدا من المقاعد في المنظمات الإقليمية والدولية، قد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة. أليست هذه هي حصيلة نضالات جبهة البوليزاريو منذ ظهورها الدراماتيكي على الساحة مطلع السبعينيات كحركة تحرر وطني.
لقد عاد ناصر بوريطة قبل ايام من جولة بعيدة قادته إلى مجموعة مختارة من الدول، التي قالت عنها الصحافة المغربية إنها كانت «إلى وقت قريب من ابرز معاقل تنظيم جبهة البوليزاريو». واستطاع وزير خارجية المغرب في الجولة التي اخذته إلى الدومينيكان وسورينام والبرازيل وتشيلي والسلفادور، أن يسجل بعض المكاسب والنقاط الرمزية في صراعه المحتدم على إثبات مغربية الصحراء، ويوسع شيئا فشيئا من دائرة الدول التي باتت تؤمن مثله ومثل حكومته بـ»الحل الواقعي» الذي اقترحته الرباط للمشكل ويضيف لها المزيد من الانصار والمؤيدين. وربما شعر المسؤول المغربي بالكثير من الغبطة والسعادة، حين استمع السبت قبل الماضي إلى الرئيس السلفادوري الجديد نجيب أبوكيلة وهو يقول في مؤتمر صحافي عقده معه في ختام لقائه به «إن السلفادور كانت اعترفت لأسباب ايديولوجية بجمهورية افتراضية غير موجودة لا تتوفر على أرض أو ساكنة»، وإن قرار الاعتراف بتلك «الجمهورية الوهمية» قد عزل بلاده عن المغرب وعن العالم العربي».
الحركة التي تطالب بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره تعاني مثل معظم الأنظمة العربية من ترهل وهرم قياداتها، والغموض في إدارتها للأموال والمساعدات الخارجية
فلم تدغدغ الكلمات حينها عاطفة الوزير فقط، بل زادت اللغة البراغماتية التي تحدث بها رئيس بلد امريكي صغير من قناعته بأن العصر قد تغير بالفعل، وأن الزمن فعل فعله في الكثير من الاشياء، وأن باب التحولات الكبرى في المواقف الدولية من الملف الصحراوي لم يعد مواربا، بل صار اليوم مفتوحا على الاخر، بعد أن سقط الكثيرون حتى في أقاصي الدنيا أسرى لجاذبية المصالح وسحرها، ولكن كل تلك النجاحات التي عاد بها بوريطة لم تعن أبدا أن كتابة السطر الأخير من فصول المعضلة الصحراوية قد باتت وشيكة. فحتى لو لاح الطرف الآخر الان في أضعف حالاته، ورآه البعض معزولا ومحاصرا داخليا وخارجيا، وتصور قلقه العميق والمتزايد مما يحصل حوله من تطورات سريعة وغامضة في البيت الداخلي لحليفته الأقوى الجزائر، فإن كل ذلك لن يعني انه سيقدم صكا على بياض، وسيبادر في لحظة يأس لرفع الراية البيضاء والتسليم بسهولة بالحل الواقعي الذي يطرحه المغرب، وهو الحكم الذاتي للصحراء ضمن دولة واحدة، ولكن السؤال الملح هو، ما الذي يملكه من أسلحة وأوراق مكشوفة أو خفية حتى يستطيع التماسك بوجه ما يلوح عاصفة هوجاء تنذر باقتلاعه ودماره؟ وهل سيتمكن من قلب الطاولة والصمود طويلا أمام ما يبدو انتصارا حتميا للجانب المغربي؟ إن بديله الوحيد ساعتها هو ان يشن حرب عصابات ربما على طريقة «داعش» واخواته. ولعل كل المعارك والمواجهات القديمة التي خاضتها الجبهة ستوضع في كفة، ومثل ذلك السؤال المفصلي سيوضع اليوم في كفة ثانية. فلن يكون ممكنا أن تستمر حربها على المغرب ، من أن تحسم في مواجهة اكبر واخطر منه، وهي قدرتها على البقاء في واقع اقليمي ودولي يزداد يوما بعد يوم غموضا وتعقيدا، ولا تبدو فيه الخيارات مفتوحة ولا هامش المناورة واسعا وعريضا. فلوقت طويل لم يعد يظهر في تطورات نزاعهم أي جديد، اللهم إلا ما ينقل بين الحين والاخر عن بعض اللقاءات التي كان يجريها المبعوث الاممي، قبل استقالته الغامضة والمفاجئة، أو جولات الحوار الرباعية التي كان يرعاها في جنيف وما يخرج على اثرها في كل مرة من تصريحات من هذا الجانب أو ذاك.
وربما كان الأمر مفهوما، فالأوضاع على الأرض ظلت على مدى أكثر من عقدين من الزمن، باستثناء بعض ما حصل في بعض الفترات من مناوشات أو تحرشات أو حتى تهديدات بين الطرفين المغرب والبوليزاريو، ثابتة ومستقرة على حالها، ولم يكن هناك ما يدل على أن موازين القوى قد تنقلب أو تتغير بسرعة تكفي لطي الملف، ولكن الهدوء الظاهر الذي يخيم اليوم على الجبهة العسكرية قد لا يعكس بالمرة هدير الصخب الداخلي، الذي لا يسمع جيدا في المخيمات، والتوجس الكبير مما تخبئه الايام لحركة ولدت في عز المعارك والاستقطابات الكبرى، واستطاعت أن تلعب على تناقضات المعسكرين وصراعتهما وحروبهما المريرة بالوكالة. فليس بوسع أحد أن يتخيل الآن وأكثر من اي وقت مضى أن لا يكون قادة الصف الاول على الاقل مشغولين جدا بالتفكير في المستقبل، فهم لا يعرفون بعد كيف ستكون الجزائر الجديدة، وبأي وجه ستظهر بعد المخاض العسير والطويل للحراك، وهل انها ستختار العقلانية والواقعية السياسية أو البراغماتية، وستفضل التوصل لاتفاق ما مع المغرب، يغلق ملف التوتر المفتوح بينهما ويأذن ببدء صفحة جديدة قد لا يكون لجبهتهم بالضرورة مكان أو موضع فيها. ومع انهم يدركون جيدا انه متى قرر الجزائريون أن يرفعوا ايديهم ويسحبوا البساط من تحت ارجلهم، ويوقفوا دعمهم لهم، فإنهم سيكونون في العراء تماما وفاقدين لاي سند اخر، إلا أن ما يطمئنهم قليلا هو ان تشابك المصالح وتوثقها بينهم وبين الجنرلات، قد يجعل من ذلك الاحتمال في الظرف الحالي على الاقل مستبعدا. والمشكل هو ان الحركة التي تطالب بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره لا تفكر في كل ذلك بصوت عال ومسموع، وتعاني مثلها مثل معظم الأنظمة العربية من ترهل وهرم قياداتها، ومن الكثير من الغموض الذي يلف طريقة إدارتها للأموال والمساعدات الخارجية.
كما أنه لا شيء يدل على انها جهزت خططا بديلة، أو أن لديها بالفعل مقترحات اخرى للخروج من الازمة. ومع انها تعتقد أن الثبات على موقفها هو عين الحكمة، إلا أن الوقت لم يعد يخدم أحدا آخر غير المغرب. وربما إن لم يسارع الجبهويون قريبا بالقيام بالمراجعات والاصلاحات المطلوبة لبيتهم فانه لن يكون بوسعهم أن يروا مستقبلا حتى تلك الرايات القليلة التي ما زالت ترتفع فوق بعض مباني بعثاتهم في الخارج.