هل أمازيغ الجزائر انفصاليون حقا
تميز الحراك الشعبي الجزائري بأنه لم يشهد منذ انطلاقته في 22 فبراير الماضي وطوال تظاهراته السلمية أي صراع بين المشاركين فيه حول قضايا الهوية اللغوية والثقافية أو على رمزيتها مثل رمزية الراية، بل انتصروا لتقاليد احترام تنوعاتهم وانتماءاتهم السياسية أو العقائدية، مع التركيز على جوهر المشكلة الوطنية المتمثلة في العصف بالنظام الدكتاتوري ورموزه في مختلف أجهزة السلطة. في هذا المناخ كان ينتظر أن يتم تجنب النكوص إلى إحياء تعقيدات الأزمة الأمازيغية التي بدأت منذ أكثر من 72 سنة ولا تزال طاحونتها تدور رحاها إلى اليوم.
وفضلا عن ذلك فإن الحراك الوطني في طبعته الشعبية المتنوعة قد تجاوز تلك الادعاءات التي تعوّد أصحابها في مرحلة الاستقلال، على عدم التمييز بين قلة من المتطرفين وبين أغلبية سكان المنطقة الأمازيغية الذين يتهمون زورا وبهتانا بالنزعة الانفصالية الأمر الذي شوه الإثنية الأمازيغية خاصة في الفترات التي شاهدت انتفاضات الشارع الجزائري قصد تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتعددية السياسية، أو من أجل الاعتراف بالهوية الثقافية الأمازيغية في إطار الوحدة الوطنية.
لا شك أن مقاومة النظام الجزائري لهذه المطالب تميزت بالشراسة منها مثلا تجنيد النظام الجزائري لفرق سرية مشبوهة قامت بحرق القرآن في تيزي وزو وألصقت التهمة بالأمازيغ لإظهارهم أمام الرأي الجزائري والعربي الإسلامي كانفصاليين وكفار وملحدين.
وفي الحقيقة فإن النظام الجزائري هو من خلق المناخ الذي أدى إلى تفريخ مشاريع الانفصال وطقوس إذلال البعدين الثقافيين العربي والأمازيغي وحامله اللغوي الذي لم يسع النظام إلى ترقيته إلى المستوى المعرفي العلمي والفكري والاكتفاء باعتراف شكلي بالأمازيغية.
وفي الواقع فإن الحراك الشعبي الجزائري بدأ يتعرض الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى مؤامرات متعددة ومقنّعة قصد القضاء عليه. ها هي أحزاب وشخصيات معارضة تخطط لعقد اجتماع كي تركب الموجة وتستولي على منجزات هذا الحراك، وها هو التيار الذي ينتمي إلى النظام الجزائري المتشبث بالحكم يحاول بأساليب مختلفة أن يخفي وجهه الحقيقي بواسطة وصف نفسه بأنه المنقذ من جماعة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. مع أنه في الواقع جزء عضوي من فساد حكم هذا الأخير الذي يضاف إلى أطوار الفساد التي دشنتها عصابات هذا النظام خلال فترة الاستقلال.
لا شك أيضا أنه ينبغي الحذر من ركوب موجة الحراك الشعبي، ومن هذا التيار الذي لا يقل خطورة عن فلول المعارضة الميتة التي فقدت المصداقية في المشهد الوطني الجزائري جراء جريها وراء أوهام السلطة وفشلها في قيادة الشعب الجزائري نحو الحرية والديمقراطية، الأمر الذي حولها إلى عبء ثقيل على المجتمع الجزائري، وإلى فاعل أساسي آخر ساهم ماديا وسياسيا في تحطيم أول انتخابات تعددية حزبية جزائرية في 12 يناير 1992.
في هذا المشهد السياسي الجزائري الراهن هناك أيضا مجموعة من الأشخاص الذين عودوا المواطنين على الظهور في الساحة السياسية كشخصيات مستقلة، ومرة أخرى يظهرون للناس كجزء من هذه المعارضة ولكنهم في الحقيقة أفراد انتهازيون تتلخص أهدافهم في اصطياد الفرص للانقضاض على المناصب الحساسة في مختلف أجهزة الدولة بما في ذلك الحقائب الوزارية. وقد شكل هذا السلوك السلبي بيئة سياسية سلبية حيث لا يخفى على أحد في الجزائر أن أقطاب السلطة الحاكمة وهؤلاء الانتهازيين، إلى جانب ما يسمى بأحزاب المعارضة يتحايلون جميعا على الحراك الشعبي، ويسعون بأساليب متنوعة إلى إسقاط مشروع تأسيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية على أنقاض النظام الجزائري الرجعي وحلفائه في الخارج وأدواته في الداخل.
في هذا السياق تدخل اللعبة القديمة/ الجديدة المتمثلة في فزاعة الراية واللغة الأمازيغيتين اللتين تُصوّران للناس كوحش يهدد الوحدة الوطنية. علما أن الفساد والدكتاتورية المكرسين هما الآفتان اللتان تنخران هذه الوحدة المفترضة منذ استيلاء الجيش والمخابرات على الحكم عام 1962.
وفي الحقيقة فإن حزب جبهة التحرير والحكومات التي نصّبت باسمه قبل إقرار التعددية الحزبية وبعدها، يتحملان قسطا كبيرا من مسؤولية إنتاج خطاب الرهاب من الأمازيغ ولغتهم وثقافتهم ورموزهم المادية والمعنوية من بينها الراية الثقافية التي يتجاوز مضمونها الرمزي الاعتزاز بالتراث والهوية التي تشترك فيها الجزائر مع عدد من الدول المغاربية والأفريقية، وفضلا عن ذلك فإن هذه الراية لم تزاحم يوما العلم الوطني في المناسبات الرسمية الكبرى داخل الوطن وخارجه.
على هذا الأساس فإن الزوبعة التي أثارتها قضية رفع الراية الأمازيغية في التظاهرات السلمية التي شهدتها الجزائر جنبا إلى جنب العلم الوطني ليست بريئة، بل هي جزء من تراث الوصاية والقمع الذي فرض الآن على المنطقة الأمازيغية وسكانها الذين ليس لهم أيّ حسابات أو عداوة مع العرب والثقافة العربية ولغتها، أو مع الحضارة الإسلامية في وجهها الإنساني المشرق.
ولا شك أن الذين انجروا في سياق الجيش ووافقوه على منع الراية الأمازيغية من الظهور في تظاهرات الحراك الشعبي كرمز مقاوم للفساد بين الرمزيات الوطنية الأخرى، وفي مقدمتهم عدد هائل من الكتاب والجامعيين والشعراء، هم جزء من الدكتاتورية والأحادية التي تحول دون انتقال الثقافة الجزائرية السياسية والشعبية إلى أفق التعددية ضمن التركيبة الثقافية الوطنية التي هي حقيقة تاريخية لا ينكرها إلا المصابون بالعقد الثقافية والتاريخية.