متى يتوقف نزيف هجرة العقول المغربية

لا جدال في أن المغرب تعرض منذ زمن بعيد لاستنزاف في طاقاته المادية والاقتصادية والاجتماعية، وهو استنزاف أضعف حركة المجتمع وديناميكيته، ومزق كياناته الاجتماعية والثقافية، وعطل تطوير العقل وتنمية العلم والإنسان. فهذا الاستنزاف لم يكن معزولاً عن التفكير الغيبي أو السلطوي  الذي تحكم في ثقافة المكان والزمان، وأدى إلى شيوع ثقافة اللامبالاة تجاه ظواهر الحياة. بمعنى أن خسارة المجتمع من جراء الاستنزاف المجتمعي، ما كان يحدث لولا تخلف مؤسسات المجتمع وركودها، وعدم فعاليتها في إدارة الأزمات، وابتكارها أساليب علمية لمواجهتها، واستشرافها للمستقبل.

باختصار هناك استنزاف ظاهر، وهناك استنزاف باطن، والأخطر هو أن يُستنزف المجتمع اقتصاديا وعلميا من دون رؤية ظاهرة، ومعرفة دلالاتها ظاهرياً بسبب طبيعتها غير المنظورة وصعوبة تقدير حساباتها الاقتصادية المباشرة، فهي تنخر في الباطن، ولا تشعر المجتمعات بمخاطرها الاقتصادية، إلا عندما تصطدم الإرادات المتباينة، أو تبدأ الرغبات بإيقاظ الحاجات.

إن هجرة العقول أو الكفاءات ظاهرة تاريخيّة لم ترتبط بمكان أو زمان، إنما هي ردة فعل لافتقاد أصحابها للحرية وبيئة الإبداع، واختناقهم بدخان بيئة ملوثة سياسيّا واجتماعيا واقتصاديا، وهي بيئة تنبذ العلم في ممارساتها، وتكرس لمفهوم الجمود الفكري والعقلي.

ولم تكن هجرة العقول مرتبطة بالمغرب فقط، فهي بدأت عالميا، ولكن آثارها الاقتصادية والعلمية أعمق بكثير مما في مجتمعاتنا التي تعاني من أميّة أبجديّة وأميّة حضاريّة وفقر في المعايير العلميّة، وتلوث بيئي في الإبداع والعلم، وهو ما يجعل هجرة العقل من الموطن إلى الوطن الآخر خسارة لا تعوّض. وتعني انتقال أهم رأسمال اقتصادي للبلد ألا وهو الرأسمال البشري المثقف، المؤثر في تطور الاقتصاد القومي وعلى التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية، وحرمان المغرب من الاستفادة من مؤهلات هذه الكفاءات.

وتقول دراسة حديثة أنجزها موقع rekrute (مختص في مجال التشغيل) حول المغاربة أصحاب الشهادات العليا (حاصلين على شهادة الإجازة –البكالوريوس- فما فوق) إن 91 من القاطنين منهم في المغرب، يرغبون في الهجرة إلى كندا (37 بالمئة) أو فرنسا (25 بالمئة) أو ألمانيا (12 في المئة) أو دول أخرى، رغم أن نسبة كبيرة منهم تشتغل مسبقا. بينما أوضح المهاجرون سلفاً، حسب الدراسة ذاتها المنشورة عام 2018، أن الرغبة في تطوير مسيراتهم المهنية كانت السبب الأول للهجرة. وفي الوقت الذي أكدت فيه 74 من الكفاءات المهاجرة أنها ترغب يوماً بالعودة، قال 44 في المئة من غير المهاجرين إنهم يرغبون بالبقاء في بلدان الهجرة مدى الحياة.

رقم لا يظهر مبالغاً فيه، فالأطباء كذلك يهاجرون بالآلاف، إذ نقلت عدة صحف مغاربة ملخصاً لدراسة أنجزها المجلس الوطني للأطباء في فرنسا، بيّنت أن عدد الأطباء المولودين في المغرب والمزاولين للمهنة في فرنسا يصل إلى أكثر من 6150، جلّهم يعملون بشكل دائم. وتعد فرنسا من الوجهات المفضلة للأطر المغربية لأجل العمل، ويعود ذلك لأسباب متعددة منها تدريس التكوين العلمي العالي في المغرب بالفرنسية.

استراتيجيا، تعتبر هجرة العقول نزيفا خطيرا غير منظور للمغرب ، حيث المعادلة الصعبة بين رؤية تحديث المغرب، وهجرة العقول المتخصصة في أبرز الاختصاصات العلمية النادرة كالجراحات الدقيقة والطب النووي، والعلاج بالإشعاع، والهندسة الإلكترونية، والهندسة النووية، وعلوم الليزر، وعلوم الفضاء، والهندسة الوراثية، إضافة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية.

وباختصار هناك استراتيجية لنموذجين من الهجرة: نموذج تقليدي، وهو الهجرة إلى الخارج. ونموذج معاصر تبنته الشركات العابرة للحدود بإقامة مراكز بحوث داخليا (الهجرة إلى الداخل)، واستثمار العقول المغربية لمصلحتها السياسية والاقتصادية والمالية، دون أن يكون للمغرب فوائد علمية واقتصادية تخدم مجتمعه بمعنى أنها أصبحت صورة للاستغلال وسلب القدرات الطبيعية والبشرية.

إن هجرة العقول أضعفت المؤسسات العلمية والأكاديمية ومراكز البحث العلمي، وأصبحت الجامعات المغربية  تعاني خللا في ندرة التخصصات العلمية، وتدهورا في البحث العلمي، حيث معدل الإنفاق المغربي  على البحث العلمي لا يزيد على 0,002 بالمئة سنويا من الدخل القومي، يقابله تخلف وعجز تنموي وإخفاق علمي وتكنولوجي ومشكلات معيشية، وضعف مستوى الأجور والرواتب التي يتقاضاها الباحثون والعلماء. ولهذا السبب أدارت أعمدة الفكر والثقافة في المغرب ظهورها للدولة والمجتمع، إما عن طريق البحث عن «فضائل العزلة» أوعن طريق البحث عن «فضائل الغربة»، في ظل غياب الرموز الحضارية والفكرية عن عقل صانع للقرار السياسي.

قانونياً، إن المغرب بحاجة إلى وضع قوانين متطورة لجذب العقول المهاجرة، وإيقاف النزيف الاقتصادي الذي يتعرض له، وإيجاد تنسيق قانوني بينها وبين المؤسسات الدولية ذات العلاقة لحماية العقول المغربية المهاجرة، وحمايتها من الاستغلال غير الإنساني للشركات الدولية عابرة الحدود.

إن نزيف الهجرة يحتاج إلى خطة تنظيمية وإدارية لوقف الهجرة أو تنظيمها بالاتجاه الذي يؤدي إلى أن تكون فعالة في تطوير المغرب، لا لتصبح عبئا مضاعفا على المشكلات الكثيرة التي يتعرض لها . بمعنى آخر، إننا بحاجة إلى عملية تنظيم لهجرة العقول مرتبطة بحاجات المجتمع ومؤسساته، وإلى إدارة فعالة تستجيب لعملية التنظيم والتخطيط.

إن المغرب تكبد خسائر جسيمة جراء هجرة العقول بلغت (11) مليار دولار في السبعينات، وأكثر من 200 مليار دولار في الوقت الحاضر، وهي خسارة غير منظورة في اقتصاد البلاد . ونعترف أن هجرة العقول تؤدي إلى تأمين المليارات من العملة الصعبة في البلدان الأصلية للمهاجرين، وتحسين الوضع الاجتماعي للعائلات الفقيرة، إلا أن بعد هذه الكفاءات عن مواطنها الأصلية يعني حتما توسع الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وتأثيرها في المخططات التنموية العربية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ومن الضروري أن يسهم الإعلام المغربي في تعزيز التوعية  بهذه الظاهرة، وبأهمية البحث العلمي في الحياة ، ورفع الثقة  بقدرات العلماء المغاربة  ودورهم بالنهوض في المسيرة العلمية  من خلال تعريف المغاربة  بإنجازات هؤلاء العلماء  وعطاءاتهم، وتكريمهم في وسائل الإعلام وجعلهم قدوة للأجيال المقبلة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: