مَن ظلم محمد مرسي.. الدولة أم تنظيم الإخوان؟
أفضت وفاة الرئيس المصري السابق محمّد مرسي إلى فرض نوع من المقارنات بين وضعه ووضع سلفه حسني مبارك خلال قضائهما عقوبة السجن. وبخلاف مبارك، فإن مُرسي لم يكن لصّا، ولكنه ارتكب ما هو أكبر من السرقات بإضاعته فرصة التحول الديمقراطي على مصر لكونه كان رئيس أشبه بآلة في مشروع جماعة الإخوان التي استعجلت قطف الثمار قبل نضجها.
واكب الموتَ المفاجئ للرئيس المصري السابق محمد مرسي تعاطفٌ عزّزه ما سبق الموت من حرمانه، مع آخرين، من حقوق السجين في تلقي العلاج والاتصال بأسرته ومحاميه، وما تلاه من تضييق في ترتيب جنازة لائقة، وتغطية إعلامية تسمو بالحدث من التشفي إلى الموضوعية المهنية، وتنقل الخبر من صفحة الجريمة إلى صفحات السياسة، فلم يكن الرجل لصّا على العكس من سلفه حسني مبارك المعاقب، عام 2014، بالسجن المشدد ثلاث سنوات، في جريمة مخلّة بالشرف.
وفي القضية نفسها قضت المحكمة بحبس ابنيْه أربع سنوات، وتغريمهما 125.779.237 جنيها، وإلزامهما متضامنين بردّ 21.197.018 جنيها، لاتهامهما بتزوير محررات رسمية، واتهام مبارك بإساءة “استغلال وظيفته، فاستولى لنفسه كما سهل لنجليه علاء وجمال الاستيلاء بغير حق على المال العام بمبلغ جملته 125.779.237.53 جنيها” من الميزانية المخصصة للقصور الرئاسية. وفي يناير 2016 أيدت محكمة النقض الحكم ليصبح نهائيا، ويمنح مبارك صفة “الحرامي”.
ولكن مرسي ارتكب ما هو أكبر من سرقات يمكن ردّها، إذ أضاع على مصر فرصة التحول الديمقراطي إلى أن يشاء الشعب ذات ثورة. أما وقد ذهبت سكْرة الموت والغضب من أداء سياسي وإعلامي أحمق، وجاءت الفكرة للاعتبار، فيمكن التوقف أمام مرسي وما كان يمثّله، ومن كان يمثّلهم، والسؤال عمّا إذا كان المصريون شعبا ومؤسسات قد ظلموه؟ أم أن الإخوان ظلموه مرتين.. الأولى باختياره لمنصب لم يكن مؤهلا له أو راغبا فيه، والثانية بعزله عن مؤيديه من غير الإخوان، وتجاهل حقيقة أن أصوات هؤلاء هي التي حسمت إعلان فوزه في جولة الإعادة، بعد أن علّقوا عليه آمالا في التغيير، فخذلهم ونقض تعهداته المعلنة بالصوت والصورة.
ورغم ذلك لم يفقدوا الأمل في اختيارهم، إلا بالإعلان غير الدستوري، في نوفمبر 2012. وبعد هذه الإعلان/ الفراق، لم يكن يرجى من مرسى ومن الإخوان أمل في شيء، بما في ذلك حماية الدولة المهددة بمصير تهون معه القبضة البوليسية العسكرية الصريحة؛ إذ تسهل الثورة على هذا النوع من الاستبداد، من دون أي مجادلة بالخروج على شرع الله.
شاركتُ في انتخابات رئاسية مرة واحدة ولم أكررها. كنت واحدا من 134056 مواطنا (0.58 بالمئة) انتخبوا المحامي خالد علي. فلما أعلنت النتيجة في 28 مايو 2012، ونال محمد مرسي 5764952 صوتا ويليه أحمد شفيق 5505327 صوتا، اعترض المحامي الشاب (40 سنة آنذاك) على نتيجة الديمقراطية، واحتمى هو وأنصار حمدين صباحي بميدان التحرير، وأمسك بيد كمال خليل في الميدان، ولم يفرقوا بين الهتاف في مظاهرة، والهتاف ضد تصويت انتخابي حرّ.
معاهد فريمونت
كان الاعتراض مزحة، وإلى اليوم قررت ألاّ أشارك في أي انتخابات، بداية بجولة الإعادة التي حصل فيها مرسي على 13230131 صوتا (51.73 بالمئة)، وهي نسبة لا تغري الفائز بها بأي استبداد في إدارة الدولة. والكتلة المضافة إلى مرسي في الإعادة تضم 7465179 صوتا لعاصري الليمون من ناصريين ويساريين وليبراليين عزّ عليهم انتخاب رمز دولة مبارك؛ فلم يكن معقولا أن يثوروا على نظام، ثم يكافئون أبرز رجاله، ويرفعونه بإرادتهم من رئيس للوزراء في آخر عهد مبارك إلى رئيس للدولة، بعد ثورة شعارها “تغيير، حرية، عدالة اجتماعية”.
وعلى الضفة الثانية، أعرف أصدقاء انحازوا إلى الثورة منذ يومها الأول، ورأوا في اختيار ممثل لليمين الديني إهانة، وتهديدا لمشروع الدولة المدنية، فعصروا الليمون أيضا واختاروا شفيق. كانت فتنة لا أتصور أن يعيدها التاريخ.
مرسي منح نفسه سلطات لم تجتمع لدكتاتور ولا لنبي؛ كانت قراراته نهائية ونافذة بذاتها وغير قابلة للطعن
في التقية السياسية رفع الإخوان شعار “مشاركة لا مغالبة”، فامتدت الأيدي بحسن النية إلى مرسي، وفي الاجتماع الشهير بفندق فيرمونت حضر مرسي وجماعته وحزبه، مع نحو 20 ممثلا لقوى وطنية اعتبرت مرسي مرشح الثورة، وصاغوا “اتفاقية فيرمونت” بنقاطها الست، وتشمل “أن يضم الفريق الرئاسي وحكومة الإنقاذ الوطني جميع التيارات الوطنية، ويكون رئيس هذه الحكومة شخصية وطنية مستقلة”، و”الشراكة الوطنية والمشروع الوطني الجامع الذي يعبّر عن أهداف الثورة، وعن جميع أطياف ومكوّنات المجتمع المصري”، و”تكوين فريق إدارة أزمة يشمل رموزا وطنية”، و”السعي لتحقيق التوازن في تشكيل الجمعية التأسيسية بما يضمن صياغة مشروع دستور لكل المصريين”، و”الشفافية والوضوح مع الشعب”.
وتعهد مرسي أمامهم بتشكيل فريق رئاسي يضم ممثلي التيارات الوطنية، وسيكون نوابه من خارج جماعة الإخوان. ثم فوجئوا بتكليف هشام قنديل بتشكيل الحكومة، فأعلنوا في مؤتمر صحافي، في 28 يوليو، استياءهم من غياب الشفافية بين الرئيس والشعب، وعدم وفائه بما تعهد به، فانفضت الشراكة. وقبل الذكرى السنوية الأولى للاتفاق بقي من العشرين ثلاثة مع مرسي، أما الآخرون ففروا، لكي لا يشاركوا في خطيئة وطنية.
هل كان مرسي مغلول اليد، منقوص الصلاحيات؟ أم كان أداة في مشروع جماعة تستعجل قطف الثمرة قبل نضجها؟ نضج الثمرة والجماعة أيضا.
أترك الإجابة للوقائع. في 17 يونيو 2012، قام المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة باستباق إعلان نتيجة الانتخابات، وأصدر إعلانا دستوريا مكملا ينتقص من سلطة رئيس لا يعرف المصريون من سيكون، إذ “يختص المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتشكيل القائم وقت العمل بهذا الإعلان الدستوري بتقرير كل ما يتعلق بشؤون القوات المسلحة، وتعيين قادتها ومدّ خدمتهم… يباشر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الاختصاصات سلطة التشريع لحين انتخاب مجلس شعب جديد”. ولكن مرسي، استنادا إلى صلاحياته الرئاسية، ألغى هذا الإعلان الدستوري المكمل، في 12 أغسطس 2012، وأحال طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان وقادة أفرع الجيش إلى التقاعد، وعيّن اللواء عبدالفتاح السيسي وزيرا للدفاع. ولم يهتف مواطن ضد هذا القرار الرئاسي.
صلاحيات مستبد
كان مرسي يمارس صلاحيته في تعيين من يشاء في الوزارات السيادية، ولم يعترض عليه أحد، حتى في تكريمه الرمزي لقتلة أنور السادات، في 6 أكتوبر 2012، في الاحتفال بنصر أكتوبر في استاد القاهرة. وقد بدا الحفل كأنه مؤتمر للإخوان لا مناسبة وطنية، ففي المدرجات شباب الجماعة.
نظم الإخوان الاحتفال، بدلا من وزارة الدفاع. وغاب عن النصر أصحابه وقدامى المحاربين والمصابين وعائلاتهم، وحضر طارق الزمر بدلا من رئيس أركان القوات المسلحة في حرب أكتوبر 1973 الفريق سعدالدين الشاذلي.
كان مرسي يمارس صلاحيته في تعيين من يشاء في الوزارات السيادية، ولم يعترض عليه أحد، حتى في تكريمه الرمزي لقتلة أنور السادات، في 6 أكتوبر 2012
شهدت أول مئة يوم في حكم مرسي توأمة بين الإخوان والحركات الإسلامجية بأطيافها، في أجواء شجعت محمد الظواهري شقيق الطبيب أيمن المقيم في جبال أفغانستان، على أن يقول إن نص “السيادة للشعب” في الدستور الذي لم تنته الجمعية التأسيسية من كتابته “شرك بالله.. والانتخابات حرام”.
ولم يقع الفراق إلا بإعلان دستوري قضى على أي أمل في وحدة الصف. بذلك الإعلان حصّن مرسي قراراته، ولجنة كتابة الدستور، من الطعن أمام القضاء، ومنح نفسه سلطات لم تجتمع لدكتاتور ولا لنبي؛ فلا طعن على قانون، وقراراته “نهائية ونافذة غير قابلة للطعن أمام أي جهة، كما لا يجوز التعرض بقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وتنقضي جميع الدعاوى المتعلقة بها أمام أي جهة قضائية”. وقد قرأ المتحدث الرئاسي نص “الإعلان الدستوري” في 22 نوفمبر 2012، بعد الاطمئنان إلى وصول أنصار إلى القاهرة، ليؤيدوا قرارات لم تصدر بعد.
بعد فترة الفراق الوطني، والانفراد الإخواني بالحكم، جرى تكفير ديني ومذهبي، وقتل أربعة من الشيعة على أيدي حلفاء للإخوان، بتحريض في مؤتمر جماهيري حضره الرئيس، وتناوب السلفيون علىتكفير الشيعة. وسبق أن روى محمد حسين يعقوب قول مرسي له إن “الشيعة أخطر على الإسلام من اليهود”. وفي جريمة غامضة خطف إرهابيون سبعة جنود في سيناء، وأكد بيان رئاسة الجمهورية حرص “الرئيس” على “المحافظة على أرواح الجميع، سواء (أرواح) المختطفين أو الخاطفين”.
وبداية من 20 يونيو 2013 بدأ الحشد في ميدان رابعة، مصحوبا بتحريض على الدم، فأعادني إلى سؤال وُجه إلى أحمد شفيق: ماذا تفعل لو فاز مرسي؟ فقال “أهنئه وأحترم إرادة الشعب”. وجه السؤال نفسه إلى مرسي، فأجاب: “لن يكون”. أعيد عليه السؤال، فجاءت الإجابة رافضة لإرادة الشعب حين توضع الجماعة في اختبار ديمقراطي: “لن يكون”.
مشاهد مربكة لا نعرف فيها أين ينتهي دور الجماعة لكي يبدأ دور الدولة. وفي تلك العتمة، أطلق عاصم عبدالماجد من منصة رابعة، في 21 يونيو 2013، وعيدا بقطع الرؤوس. وتوالت موجات التكفير والإرهاب ممن لا يراعون حرمة لدماء أو موت، فلا يترحمون على ميت، ويكتفون بقول “فلان نفق، إلى جهنم”. لا سامح الله الذين أخذتهم الثورة بالإثم، فانتهوا وانتهينا إلى هذا المصير.