محي الدين طحكوت مفتاح الفساد في تركة بوتفليقة
يعد محي الدين طحكوت واحداً من النماذج المالية والسياسية التي أنتجها نظام بوتفليقة، حيث لعب عامل السرعة دوره في الصعود بالرجل من صاحب قصابة متواضعة في سوق شعبي، إلى أحد الأثرياء الكبار في البلاد، وذراع من الأذرع المالية للسلطة قبل أن يسقط بنفس السرعة، في إطار الحرب المعلنة على الفساد من طرف العسكر على رجالات بوتفليقة.
ومن ذلك المحل الصغير لبيع اللحوم في ضاحية بودواو في شرق العاصمة، بدأت مسيرة واحد من حيتان المال في الجزائر، قبل أن ينتهي به المطاف في إحدى زنزانات سجن الحراش الشهير، وتتوقف معها مسيرة الرجل التي انطلقت في سوق شعبي وتطورت إلى إمبراطورية من الممتلكات والأموال والاحتكارات، وطائرة خاصة يستقلها في تنقلاته.
أداة للهيمنة على النقل
على النقيض من عناصر طبقة رجال المال والأعمال التي صنعها نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، الذين تصدروا الواجهة منذ العام 2014، لاسيما بعد تأسيس ما يعرف بـ”منتدى رؤساء المؤسسات”، فإن جذور شهرة محي الدين طحكوت، بدأت قبلهم بسنوات، وارتبطت بأرمادة حافلات النقل الحمراء، التي احتكرت بقدرة قادر النقل الجامعي في ربوع البلاد، وحتى النقل الحضري بالعاصمة منذ العام 2016، بالاتفاق مع شركة “ايتيزا” المملوكة للدولة.
ولأن ثروات هذه النماذج من رجال الأعمال في الجزائر، لا تملك مسارا مهنيا ولا خبرة أو تكوينا أكاديميا ولا حتى رصيدا عائليا، فإن الثابت الوحيد لديها، أن لكل رجل أعمال قرينا من رجال الدولة النافذين، وما يقومون به هو واجهة لشبكة معقدة من النهب وتبديد المال العام.
ويجزم العارفون بأسرار ثروة طحكوت على أن سنده القوي في السلطة هو أحمد أويحيى، الذي لم يغادر كواليس النظام الحاكم منذ التحاقه بمؤسسة رئاسة الجمهورية كموظف في مديرية الإعلام إبان حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين، إلى غاية اعتقاله هو الآخر منذ أيام قليلة.
وعلى الرغم من نفي أويحيى في أكثر من تصريح ملكيته لأي ثروة ولا أي نشاط ولا أي شراكة خاصة، في رده على شبهات علاقته بإمبراطورية طحكوت، وزعمه بأنه “من يملك دليلا يقدمه للقضاء ويأخذ أي شيء يثبت باسمي أو باسم العائلة”، فإن ما يُتداول عن نشاط أبنائه في عواصم غربية، وعن علاقة بينه وبين طحكوت، يورطه في قضايا فساد مالي وفي شبكات النهب والتبديد.
ولم تتوقف مملكة طحكوت، عند احتكار النقل الجامعي الذي ينتسب إليه مليون ونصف مليون طالب، في أكثر من مئة مؤسسة جامعية تنتشر في 48 مدينة ومحافظة، بل امتدت لتشمل المركبات والسيارات وحتى الإعلام، قبل أن يستقر الأمر لدى حكومات بوتفليقة الأخيرة على تقنين وشرعنة الاحتكار وتهريب النقد الأجنبي، عبر إطلاق معامل تركيب وتجميع السيارات، وتكون للرجل حصة الأسد، حيث تحول تخصصه في استيراد المركبات الآسيوية إلى شريك لعلامة “هيونداي” الكورية، ويشيّد عدة معامل ويستحوذ على عقارات واسعة في مختلف ربوع البلاد.
الاستيلاء على أملاك الدولة
تعتبر المنطقة الصناعية بضاحية الرويبة في شرق العاصمة، أحد نماذج الاستيلاء على الممتلكات العمومية، فالمنطقة التي كانت تمثل شريان النشاط الصناعي في البلاد منذ عهد بومدين وتشغل عشرات الآلاف من العمال في مصانعها، استولى على مساحة معتبرة منها وحولها إلى حظيرة لحافلاته وقاعات عرض للسيارات التي تنتجها معامله.
ورغم احتجاجات العمال في مختلف الوحدات المملوكة للقطاع العمومي، خاصة وأن المنطقة ظلت إلى غاية السنوات الأخيرة، جذوة مشتعلة للنشاط النقابي والعمالي، إلا أن التحالف الذي كان يجمع بين قيادة المركزية النقابية والحكومة ورجال الأعمال وأد الحركة الاحتجاجية وأبقى على إمبراطورية طحكوت في حالة توسع مستمر.
ومع أنه كان رجلا يتحاشى الأضواء والكاميرات والميكروفونات، لأسباب نفسية وشخصية، بسبب محدودية مستواه التعليمي، إلا أن اهتمامه بالإعلام بدأ منذ سنوات، فتعثرت مشاريعه التي أطلقها مع بعض الصحافيين في شكل صحف ورقية، وكان طموحه يمتد حتى للاستثمار في الإعلام الرياضي، ليس لأنه كان مهتما بالترويج لرسائل إعلامية معينة، بل لاعتقاده بأن الوسيلة الإعلامية هي مشروع استثماري مفيد.
ولأنه تعرض إلى عدة ابتزازات وضغوط من طرف وسائل إعلامية، فقد امتلك في صفقة غامضة قناة “نوميديا”، بعد وفاة مالكها الإعلامي سامر رياض، وحوّل الهجوم المركّز الذي كانت تشنه عليه بدعوى محاربة الفساد في البلاد عبر سلسلة من التحقيقات المثيرة، إلى وسيلة للدفاع عن مصالحه وسمعة مجمعه، خاصة بعد الفضيحة التي هزت أركانه العام 2017.
وتناقلت حينها صور وتسريبات بثت في شبكات التواصل الاجتماعي، معلومات خطيرة عن نشاط تركيب السيارات، وجزمت حينها بأن المجمع لا يقوم إلا بنفخ العجلات فقط، مقابل تهريب المليارات من الدولارات للخارج تحت طائلة استيراد القطع والأجزاء، مما خلق جدلا لدى الرأي العام حول دور طحكوت وأمثاله والحكومة في تبديد المال العام.
ولم يكتف الرجل بامتلاك قناة “نوميديا” وحسب، بل ضخ أموالا لحساب قناة جزائرية أخرى في باريس، بإيعاز من سعيد بوتفليقة، من أجل الترويج للعهدة الخامسة لبوتفليقة في المهجر قبل بداية الحراك الشعبي شهر فبراير الماضي، لكن سقوط نظام بوتفليقة وسجن سعيد بوتفليقة ومحي الدين طحكوت وغيرهم حولاها إلى قناة معارضة للسلطة السابقة ولسلطة العسكر الحالية.
ملتهم العائدات الوطنية
ولأن الرجل شعر بخطورة الأوضاع التي أفرزها الحراك الشعبي، وتحرك سلطة الجيش لتصفية رموز مرحلة بوتفليقة من مدنيين وعسكريين ورجال أعمال، فقد حاول الفرار إلى خارج الحدود، إلا أنه أنزل لسوء حظه من على متن طائرة كانت متوجهة إلى باريس لحظات قبل إقلاعها، لكنه استطاع قبل ذلك تهريب مبالغ معتبرة من العملة الصعبة عبر أعوانه، قبل أن تتفطن المصالح الأمنية للأمر وتفتح تحقيقا دوليا حول ضابط ينتسب إليها برفقة امرأة مزدوجة الجنسية كانا يضطلعان بتهريب الأموال لصالح طحكوت. ولأن يده طويلة في أدراج السلطة قبل العديد من رموز اللوبي المالي الذي تكوّن أثناء حقبة بوتفليقة، فقد كان طحكوت من الأوائل الذين احتكروا نشاط استيراد المركبات والسيارات خلال العشرية الأخيرة، بدعم من جهات نافذة في السلطة، وكان من أبرز ملتهمي عائدات سوق محلية ناشطة وصل استهلاكها خلال العام 2013 إلى سقف الـ600 ألف مركبة وسيارة.
ورغم أن صدمة انهيار أسعار النفط كانت قوية على الحكومة منذ صائفة العام 2014، فقد اهتدى اللوبي السياسي والمالي، إلى شرعنة نوع من الاحتكار وتهريب النقد الأجنبي، بدعوى الحد من استنزاف رصيد العملة الصعبة، عبر التوجه إلى نشاط تركيب وتجميع المركبات والسيارات محليا، وكانت شركة “سيما موتورز” المملوكة لطحكوت الشريك الحصري للعلامة الكورية “هيونداي”، من أوائل المستفيدين من النمط الجديد في نهب المال العام.
استفاد هذا النوع من النشاط من مزايا جبائية وجمركية ضخمة، وحظي بدعم وتأييد حكومة أحمد أويحيى، حيث أفضت عملية الغربلة إلى إزاحة العديد من المتعاملين من السوق، ووضعها بين محتكرين معينين يحظون برعاية فاعلين في السلطة، وكان لكل متعامل رجل في النظام الحاكم، كشرط من شروط الاستمرار أو التبخر، وهو ما سمح لإمبراطورية بالتوسع والتمدد تحت ظلال أويحيى.
كان طحكوت يدرك جيدا أن السخاء في دعم نظام بوتفليقة، وتمويل حملاته الانتخابية، هو السبيل الوحيد للوصول إلى الاستحواذ على جزء من الاستثمارات الحكومية، التي توزعت اختصاصاتها بين رجال المال الذين صنعهم نظام الرئيس السابق، لذلك كان لا يتأخر في الإنفاق على مشروعات دعائية وسياسية للسلطة، وحدث أن وضع ترسانة النقل التي يملكها تحت خدمة حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، لتنظيم مؤتمره العاشر العام 2015.
كما لم يتأخر عن ولوج العالم الافتراضي، برصد دعم مالي لصحافيين وناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي، من أجل توظيفها في الدعاية والدفاع على مصالحه، التي أزعجتها منشورات وصور فضحت بشكل لافت بداية من العام 2017، عملية الاحتيال على المال العام، بواسطة احتكار النشاط وتهريب المقدرات المالية لاستيراد القطع والأجزاء.
ويحاول الرجل الذي لحق بكل من يسعد ربراب، علي حداد، والإخوة كونيناف في إحدى زنزانات سجن الحراش المدني بالعاصمة، وصاحب الثروة المقدرة بنحو مليار دولار بحسب تقديرات أجنبية، الضغط على سلطة الأمر الواقع، بإمكانياته المادية والبشرية حتى وهو داخل السجن، فقط رفضت شركة النقل في اليوم الموالي لحبسه، إلحاق حافلاتها بمحطات نقل الطلبة، قبل أن تتدخل الحكومة لفرض سلطتها والإبقاء على الخدمة، كما ينتظر أن يشرع العمال والموظفون المنتسبون لمجمّعه في حركة احتجاجية قريبا.