وفاة مرسي.. نهاية خطاب الشرعية والركون إلى تراث المظلومية
من المستفيد من وفاة الرئيس المصري السابق محمّد مرسي في هذا الظرف بالذات الذي تختنق فيه جماعة الإخوان المسلمين وفروعها شرقا وغربا؟ وفاة سرعان ما تحوّل خبرها إلى مدارات تحليل إخواني من وفاة إلى قتل، ليصبح المتوفى شهيدا، وتتحوّل جلسة المحاكمة إلى اغتيال، كل هذا لا يصبّ إلا في خانة هرولة الجماعة لاقتناص الحدث حتى تكون أكبر مستفيد منه، فهي تعلم أنه بوفاة مرسي ستخسر لا محالة سياسيا خطاب استرجاع الشرعية، ولذلك فهي تكابد لتطويع أدبياتها كي تركن مرة أخرى إلى خطاب البكائيات من زوايا عدّة تحت يافطة حقوق الإنسان، كما مارست ذلك طيلة عقود خلت لتفادي السقوط الأخير.
توفي الرئيس المصري السابق محمد مرسي، أثناء جلسة المحاكمة، وبصرف النظر عن الموقف من الوفاة ومن ظروف المحاكمة، وغيرها من زوايا النظر الحقوقية والسياسية والإنسانية، فإن أبرز المستفيدين من وفاة الرئيس المعزول، كانت جماعة الإخوان التي ركنت مجددا إلى استدعاء تراثها الخصب في المظلومية.
ترتب عن حدث وفاة محمد مرسي، ارتباطا بجماعة الإخوان وفروعها (المعلنة والهامسة وحتى المتبرئة من العلاقة) بعدان أساسيان.
البعد الأول سياسي صرف، ويبدأ من كون لحظة الوفاة تحوّلت إلى لحظة انتهاء “الشرعية”. الخطاب السياسي الإخواني تركز طيلة سنوات على ضرورة “استرجاع” الشرعية، بما يعنيه من ضرورة عودة مرسي، الرئيس المصري الأول المنتخب ديمقراطيا حسب الأدبيات الإخوانية، إلى الرئاسة بما يعنيه ذلك من مستويات فرعية في النظر الإخواني، من قبيل عدم الاعتراف بالنظام القائم، وفيه تنهض شعارات من نوع “يسقط حكم العسكر” وفيه تسريب مضلل يقوم على أن جماعة الإخوان تدعو إلى حكم مدني، وبما يؤدي إليه أيضا من تحويل ماكر للمطالبة بعودة الشرعية واعتبارها استئنافا لثورة 25 يناير.
على ذلك فإن وفاة محمد مرسي مثلت حدثا خطيرا وجللا لدى جماعة الإخوان في شتى أنحاء العالم، لا لأهمية الرجل أو لدوره أو لمناقبه أو تاريخه، وإنما لأنه كان يمثل اختصارا كثيفا لخطاب سياسي مركب يتمحور حول فكرة “الشرعية”. هذا التمركز هو ما أضفى على وفاة مرسي تلك الأهمية السياسية والدلالية التي تتجاوز حتما، التفاعل مع وفاة أي قيادي آخر داخل جماعة الإخوان، ولو كان المرشد نفسه أو الأمين العام للتنظيم الدولي.
بوفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي في المحكمة، طوت الجماعة -مضطرة- صفحة مهمة من تاريخها. وما يزيد من أهمية الحدث انه جاء في سياق سياسي إقليمي ودولي موسوم ببدء انفضاض العالم من حول الجماعة، خاصة في ظل ارتفاع عدد الدول التي بدأت، أو تعتزمُ، تصنيف الإخوان جماعة إرهابية.
انتهاء مفعول الشرعية، في هذا السياق العام السائد في المنطقة وفي العالم، عرّى الجماعة من إحدى أهم أوراقها السياسية والحقوقية والأخلاقية. وهنا ينتهي البعد السياسي للحدث لتركن الجماعة إلى واحد من أهم مفاصل أدبياتها. وهو البعد الثاني المشتق من الأيديولوجيا.
أعلن التلفزيون الرسمي المصري، الاثنين، وفاة مرسي أثناء حضوره جلسة محاكمته، وقال إن مرسي تعرض لنوبة إغماء بعد جلسة المحاكمة توفي على إثرها. وسرعان ما انتقل الحدث من دائرة الخبر إلى مدارات التحليل، وعادت إلى صدارة السجالات تلك المرحلة المهمة من تاريخ مصر المعاصر، وتحديدا في الفترة الفاصلة بين 30 يونيو و3 يوليو 2013. إن جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تتهيأ لاسترجاع الذكرى، اضطرت إلى تغيير تكتيكاتها إثر وفاة الرئيس السابق، فاستدعت تراثها الخصب في المظلومية، منذ يوم الوفاة.
تحولت الوفاة إلى قتل، والمتوفى إلى شهيد، وجلسة المحاكمة إلى اغتيال، والنظام المصري إلى قاتل، وكل من لم يساند الجماعة في “محنتها” استحال شريكا في الانقلاب أو شاهد زور على التاريخ.
لم يكن هذا القاموس الدلالي الإخواني الحافل بمفردات المظلومية والبكائيات مقتصرا على القيادات والأنصار في شتى أنحاء العالم، بل كثيرا ما كنا نلحظه في بيانات ومواقف رسمية. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال “أدعو بالرحمة للشهيد محمد مرسي أحد أكثر مناضلي الديمقراطية في التاريخ”.
وأضاف “سوف نفعل كل ما هو مطلوب لمحاكمة مصر أمام المحاكم الدولية”. مواقف أردوغان، تتضافر مع مواقف حركة حماس الإسلامية وأمير قطر، ولو أن مواقف الأطراف الأخيرة كانت أقل قوة وشراسة من موقف الرئيس التركي، إضافة إلى مواقف أغلب التيارات والحركات الإسلامية، (حركة طالبان أدلت بدلوها ونعت محمد مرسي واعتبرته أحد قادة النهضة الإسلامية)، ومنها بيان المكتب العام للإخوان المسلمين الذي جاء فيه “ترجل الفارس الشهيد القائد محمد مرسي، الرئيس الشرعي المنتخب لجمهورية مصر العربية، وارتقى إلى ربه وهو في قاعة المحاكمة، بعد ست سنوات من الانقلاب العسكري ضده، واختطافه ومحاكمته بتهم واهية في محاكمة رمزية للثورة ورموزها وقادتها”.
التحول الرشيق من خطاب الشرعية إلى خطاب المظلومية لم يحتج وقتا طويلا عند القيادات والعناصر الإخوانية، ومن يناصرهم ويساندهم. كان الأمر يوحي بوجود أوركسترا خفية تحدد وجهة المواقف؛ تركيز مشترك وواسع على مصطلحات من قبيل “الرئيس المنتخب” و”الشهيد”، إضافة إلى استجلاء مواقف الأطراف الأخرى، لتطلق مرحلة أخرى من السجال السياسي قوامها أن من لم يثر موضوع وفاة مرسي (أو قتله) هو مصطف جنبَ نظام الانقلاب في مصر، هي كلها أدوات فكرية وسياسية للعودة إلى صدارة الأحداث. ولم يضرّ الجماعة في هذا الصدد أن تستنبت مصطلحات حقوقية غريبة من حقولها، للتنديد بجور المحاكمات وافتقادها للشروط الحقوقية والحقوقية الكونية.
كان محمد مرسي يمثل مرحلة مهمة وخطيرة في تاريخ مصر المعاصر، بعد الثورة على نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكانت الجماعة وحزبها (الحرية والعدالة) قد أعلنا ترشيح مرسي، كمرشح احتياطي في انتخابات الرئاسة، بدل المرشح الرئيسي آنذاك خيرت الشاطر. وجاءت الوفاة في مرحلة حرجة تمرّ بها الجماعة، تبخرت خلالها منظومة كاملة من الخطاب السياسي تقوم على “الشرعية”، إلا أن الجماعة استعاضت عن ذلك باستدعاء خطاب مظلوميتها الضارب في التاريخ، وفهمت أيضا أن الوفاة لحظة سياسية يجب اقتناصها.