الإعلام المصري يفشل في الاختبار

أتاحت وفاة مرسي للصحافة المصرية مناسبة ذهبية لاستعادة القارئ، بمدّ جسور الثقة المهنية مرة أخرى وأخيرة، ولكن هناك إصرارا على الفشل، وارتكاب خطأ مهني فادح وفاضح.

نشرت أخبارنا الجالية الثلاثاء 18 يونيو 2019، خبر الوفاة المفاجئة للرئيس المصري المعزول محمد مرسي، مصحوبا بصورة، ولم تشاركهما هذا الانحياز المهني إلا صحيفة “المصري اليوم”، فكانت استثناء مصريا يؤكد قاعدة تقدّم الرغبة في الانتقام المعنوي على أي اعتبار آخر، بما في ذلك حق القارئ في المعرفة. وقد أتاحت وفاة مرسي للصحافة المصرية مناسبة ذهبية لاستعادة القارئ، بمدّ جسور الثقة المهنية مرة أخرى وأخيرة، ولكن هناك إصرارا على الفشل، وارتكاب خطأ مهني فادح وفاضح، يؤكد تبعية إدارة تحرير الصحف لجهات أمنية، أو فوق أمنية أمرت بإخفاء “الحدث”، لدرجة أن صحيفة يومية شعبية مثل “الأخبار” نشرت، أسفل صفحتها الثالثة في اليوم التالي، قصة الوفاة في 42 كلمة على عمود واحد يشمل صورة لمرسي أصغر من طابع بريد. واتفقت الصحف في نشر أخبار الوفاة في صفحة “الجريمة” المسماة “حوادث وقضايا”، وتخصص لأخبار القضايا الجنائية لا السياسية.

نشرت الصحف الاسم الثلاثي للمتوفى، محمد مرسي العياط، غير مسبوق على الأقل بلقبه العلمي “الدكتور”، وأتبعوا الاسم بلقبه العائلي “العياط”. ومن البديهيات أن الأسماء والألقاب لا تعلل ولا تسيء إلى صاحبها. وفي هذا الاتفاق المريب، على نشر الاسم ثلاثيا، استخفاف بذاكرة قارئ لم ينس أن مرسي كان رئيس جمهورية مدنيا منتخبا. وهكذا ضاعت فرصة لإيضاح طرق وتحايلات سلكها الإخوان لاصطياد الناخبين وتجنيدهم، في تدفق زبَد ديني وطائفي ومذهبي، عقب ثورة 25 يناير 2011.

ولا يستطيع أحد محو حقيقة أن الرجل كان رئيسا، وبقيت ملابسات ذلك الصعود، ومنها ما انتبه إليه الكاتب الأميركي جون برادلي في كتابه “ما بعد الربيع العربي” الذي ترجمه الدكتور رفعت السيد علي، وفيه يفكك وهم الأغلبية، بقراءة النسب الحسابية للتصويت الفعلي في الانتخابات، وهي “مفزعة ومخيفة وتثير القلق”؛ فلا يذهب إلى صناديق الاقتراع في الدول العربية إلا ما يتراوح بين 20 و40 بالمئة ممن لهم حق الاقتراع.

وفي أول تصويت حرّ بمصر في 19 مارس 2011، للاقتراع على تعديلات دستورية، ذهب إلى الصناديق 41 بالمئة ممن لهم حق الاقتراع. وفي ضوء هذا الإقبال، لا يكون مستحيلا على الإسلاميين أن يضمنوا تحقيق أغلبية من بين أقلية سجلت أسماءها، إذ يذهب أغلب المتعصبين إلى الإدلاء بأصواتهم، “فيبدون وكأنهم أغلبية تصويتية… الإسلاميون إذن ببساطة شديدة، لا يحتاجون لتأييد أغلبية الشعب لكي يفوزوا في أي انتخابات. فهم لا يحتاجون إلا لأصوات أغلبية الأقلية التي تذهب لصناديق الاقتراع″. وقد تيسر لهم حشد أغلبية الأقلية بالترهيب والترغيب، واعتبار الاستفتاء جهادا انتخابيا في سبيل الله، وجُندت له الفضائيات الدينية والمساجد، واستغل تنظيم الإخوان آيات القرآن في الحشد “ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه”، واعتبار “التصويت على التعديلات الدستورية والموافقة عليها واجب شرعي”. ومن بين أقلية شاركت (41 بالمئة) ضمنوا تحقيق أغلبية.

لا جديد في تسوّل الصحف المصرية للقراء، ويبدو الإعراض عنها هو الحرية الوحيدة المتاحة الآن للقارئ المصري، فلا تعنيه مثلا كل العناوين المصورة في الصفحة الأولى لصحيفة الأخبار، ومنها “السيسي وسيرجي يبحثان تعزيز التعاون بين مصر وبيلاروسيا”، “أول مرة.. أشعة بالموجات الصوتية بالمحمول”، “القاهرة تستطيع اقتحام عالم الفضاء”، “تشكيل هيئة مكتب نقابة الصحافيين”. كانت الوفاة المفاجئة لمرسي أثناء جلسة المحاكمة أكثر جذبا للقارئ، وسبيلا إلى شراء الصحيفة، مع إشارات في الصفحة الأولى إلى صفحات داخلية تعالج قضايا جادة، بالمعلومات والحقائق بعيدا عن استسهال توجيه السباب الصاخب إلى الإخوان، وما يؤدي إليه من تعاطف، بمراعاة سيكولوجية المصريين أمام موت يغفر للكثيرين أخطاءهم وخطاياهم، فما بالنا برجل قال إنه في قفصه الزجاجي المزدوج معزول عن قاضيه ومحاميه، وإنه في سجنه محروم من زيارة أهله ومن تلقي العلاج، ببساطة لا ينال حقوقه الإنسانية كسجين، أيا كانت جريمته.

في اليوم التالي لمباريات الكرة يزيد توزيع الصحف، ويقبل على قراءتها مَن شاهدوا المباراة ومن فاتتهم المتابعة، ويريدون معرفة ما تكتبه الصحافة، فيتفقون معها أو يختلفون، ويدور حوار يتصل أو ينقطع بمباراة تالية. وكان القارئ جاهزا لقراءة حقائق إخوانية، فمرسي أول رئيس يشق الصف الوطني بإعلام غير دستوري يرفع منزلة الرئيس إلى مكانة إله لا يسأل عما يفعل. أول رئيس يعلن الجهاد في بلد عربي ولم يفعلها بتوجيه طاقة الغضب إلى الجهاد في فلسطين المحتلة. أول رئيس ينصت إلى أنصاره وهم يهددون أصحاب مذهب إسلامي ويصفونهم بالأنجاس، ويلي التهديد والتكفير قتل أربعة من الشيعة في القاهرة، وسحلهم وسط هتاف الفرحين بالنصر “الله أكبر”. أول رئيس مصري يعلن في التلفزيون استعداده للتضحية بمواطنيه “ممكن نضحّي بشوية عشان الوطن… ما فيش مشكلة بتاتا، (تصفيق)”.

تلك المواقف وغيرها أجدر بإقناع القراء، واحترام عقولهم بكشف استعداد اليمين الديني للعنف المقدس، أما السخرية من لقب “العياط” فلا تليق في موضع الحداد، وتدل على مصدر يدير الصحف من وراء ستار لا يستر شيئا. وقد سئل الروائي فتحي غانم رئيس تحرير صحيفة الجمهورية في الستينات عن قدرة الإعلام على الإقناع، فأجاب “كنا نشتغل صحافة، والأمن يشتغل أمنا”. وكثيرا ما قال عبدالفتاح السيسي إن جمال عبدالناصر محظوظ بإعلامه، وفاته أن الإعلام ليس إعلانا، بدليل عزف الإعلام المصري حاليا نغمة واحدة هي إنجازات أشبه بثياب إمبراطور لا يراها الخونة، في حين لا يجد المواطن إلا تضييقا في سبل العيش.. حرية واقتصادا. هو نفسه المواطن الذي أصبح، بعد 45 يوما من ثورة 23 يوليو 1952، شريكا في خيرات بلاده، ولمس آثار ذلك في قطاعات الصحة والتعليم والتصنيع والزراعة، من دون الحاجة إلى إعلان. هو نفسه المواطن الذي حمل صورة عبدالناصر في ميدان التحرير عام 2011، حالما باستعادة روح الستينات.

ينفر الإنسان السويّ من أي نزوع عنصري أو طائفي، في السياسات والخطاب الإعلامي، ولكن الرافضين للإخوان ومنهم المسيحيون بالطبع يلجأون حاليا إلى متابعة إعلام الإخوان، من باب تغيير النغمة، وتقصّي حقائق أكبر من اختزال رئيس سابق بأنه “العياط”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: