تصاعد العنف يضع العالم أمام حتمية التسامح كضرورة
بات نشر ثقافة السلام إحدى معضلات العصر بالتزامن مع غياب الوسائل الصحيحة لترسيخ مبادئ السلام بشكل عام. واتفق الحضور في منتدى لاهاي العالمي لثقافة السلام، الذي عقد الخميس في هولندا، على أن مجالي التعليم ووسائل التواصل الحديثة مفتاحا ترميم فجوات غياب التسامح وبناء عالم أكثر تفهما ونبذا للعنف والكراهية.
لا يمكن اعتبار أن السلام رفاهية للشعوب أو اختيار بين بدائل، فهو الثقافة التي يجب أن ينطلق منها الوعي الإنساني والفعل البشري دائما لضمان استمرار الحياة وترميم ما تمزّق منها بفعل الصراعات ودعاة العنف والتفرقة.
وتجسّد الحضور العربي بإيجابية في المنتدى العالمي لثقافة السلام، الذي أقامته مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية في مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي، بحضور ومشاركة مثقفين ودبلوماسيين وسياسيين وأكاديميين من دول عدة، الخميس 13 يونيو الجاري.
اتفق المشاركون في المنتدى على أن نشر ثقافة السلام مسألة ليست اختيارية، ومع تصاعد العنف والصراعات التي تهدد العالم أضحى استغلال كافة الوسائل لدفع السلام بين البشر قبل الحكومات أمرا يشغل بال الجميع.
وكي يكون التعاطي جادّا مع السلام كثقافة، فإن هذا يتطلب عدم الاكتفاء بالأفكار المجردة والطروحات التنظيرية، فما تنشده المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية في برامجها وإعلاناتها، وعلى رأسها الأمم المتحدة، أن يتحقق السلام كمنهج على الأرض ويسود التسامح وقبول الآخر بشكل حقيقي وتتعزز أواصر العلاقات والحوارات بين الحضارات والأديان.
يُعرَّف السلام كمصطلح ضد الحرب، ونشره يتطلب التعديل في مجموعة الأنماط السلوكيّة الحياتيّة، والمواقف المختلفة التي تدفع الإنسان إلى احترام إخوانه من بني البشر ورفض الإساءة إليهم والاعتداء عليهم وممارسة العنف ضدّهم.
ورغم شمولية الاتفاق حول تلك الصياغة والتعريف، إلا أن قصور الوسائل المسهلة للبلورة، بات قضية المعنيين بالسلام العالمي. وفي كلمتيهما، التقت جوك برندت ممثلة الحكومة الهولندية وإيريك دي باديتس رئيس مؤسسة كارينجي بهولندا على أهمية طرح قضايا تتعلق بالتسامح في هذا التوقيت الذي يصادف مرور عشرين عاما على إعلان الأمم المتحدة وبرنامج العمل حول ثقافة السلام.
وعرض بيتر مورر رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر ملامح النزاعات والصراعات حول العالم، وكيف يبقى مجرمو الحرب يمارسون عنفهم ويغتالون السلام والتسامح حتى ولو كانوا في السجون، لكن غرسهم السيء موجود بسبب لامبالاة المجتمع الدولي.
وقال بيتر إن ميراث العنف لا ينتهي بين يوم وليلة، فما حدث في البوسنة والهرسك مثلا من عنصرية وإبادة جماعية لم ينته أثره لليوم لأن المجتمع الدولي قبله وقتها بأريحية.
وأكدت كلمات الحضور على أن وسائل الإعلام الحديثة والتعليم رأس تنمية ثقافة السلام العادل، وتعزيز حماية التراث الإنساني، فتربية النشء على مفاهيم السلام وأبجدياته يمكن أن توجه السلوكيات والمواقف الفردية والجماعية إلى المزيد من الاندماج والتفهم لقيم السلام والتنوّع والتعايش.
وحضرت وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها الوجه الجديد للإعلام العصري القادر على دعم ثقافة السلام والقضاء على خطابات الكراهية. ومع تحولها لمنصات أساسية للجماعات الإرهابية، رأى المؤتمر في مسودة التوصيات التي حصلت “العرب” على نسخة منها أن التعاون بين الحكومات ومسؤولي المواقع يمكن أن يخلق صورة مناسبة لتعزيز السلام.
ويرى البعض من الخبراء أن نشر السلام لا يقف على محاربة الإرهاب الرقمي بإغلاق حسابات التطرف وإزالة الخطب المتشددة، لكن باستبدالها بخطاب متسامح يدعو للمودة وقبول الآخر.
ومع وجود اتفاق عام على الكثير من قضايا السلام العالمي، مثل تفهم الاختلاف وتجنب التميز والعنصرية، يمكن أن يمثل ذلك جوهر عمل منصات التواصل الاجتماعي بترسيخ المبادئ عبر المنشورات والتسويق الإلكتروني ودعوة النشطاء لتعزيز ذلك أيضا.
وانطلق الشاعر الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين في كلمته من تلك النقطة، قائلا “إن كيفية تحويل ثقافة السلام من فكرة إلى آلية ومنهج، وإلى حالة من التسامح يعيشها البشر ويتنفسونها كالهواء، تحتاج إلى زرع التسامح كقيمة إنسانية ينبغي تأصيلها لدى الصغار والكبار على السواء، بل والتدريب عليها من خلال مناهج يتم إعدادها بعناية وتدريسها بدقة لتغذية المحبة واحترام الآخر وقبوله وتعزيز التواصل والتحاور”.
وقد يصطدم الواقع بأمور قاسية على رأسها جماعات العنف والإرهاب، مثل تنظيم داعش الذي لا يعي معاني الثقافة والسلام، لكن يبقى الرهان معقودا على التسامح من خلال جهود مؤسسية ومجتمعية محلية وعربية ودولية لا تكل ولا تتوقف أمام الصعاب والتحديات.
وجاء محور التعليم أيضا ليشكل ملمحا أساسيا في سياق تعزيز ثقافة السلام والتسامح. ومع أنه يبدو غير مقترن بهما بشكل مباشر في التعريفات والتوصيفات الشائعة المنسوبة إلى الأمم المتحدة واليونسكو، إلا أن منتدى لاهاي الأخير فتح الباب واسعا لصهر التعليم ضمن العناصر الرئيسية الداعمة لثقافة السلام إلى جانب الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والأمن السياسي والعسكري وغيرها.
من هذا المنطلق، فإن التعويل على “تعليم السلام” باعتباره من المبادئ الجوهرية في المناهج التعليمية الوطنية، وتنمية المهارات العملية المتعلقة بضرورة نبذ العنف والمشاركة المدنية وحل النزاعات واحترام حقوق الإنسان وما إلى ذلك، كلها عناصر مؤثرة لحماية التراث الإنساني وبناء سلام مستدام نابع من أرضية ثقافية.
وقدّمت مؤسسة البابطين الثقافية سبعة عشر منهجا لتدريس ثقافة السلام حول العالم، وتبدأ هذه المناهج من مرحلة الحضانة حتى الجامعة، وحظيت بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة كذلك في “المنتدى العالمي لثقافة السلام”، إلى جانب توجهه من التنظير نحو التطبيق، اهتمامه بدعوة شخصيات فاعلة وذات قرار سياسي وثقل ثقافي وإعلامي، الأمر الذي ينبئ بإمكانية المضي قدما على سبيل تحويل الفكرة إلى منهج والأحلام إلى منجزات على الأرض في ما يخص ثقافة السلام، في عالم حافل بالنزاعات الداخلية والخارجية.
ويتضمن ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته “المساعدة على إرساء ثقافة السلام في العالم”، وفي هذا المضمار أطلقت اليونسكو يوما عالميّا للسلام، لتشييد مظاهر تفاعلية تسهم في تنمية ثقافة السلام واقعيّا، وتنظم اليونسكو دوريّا فعاليات تشكل ما يمكن تسميته “ثقافة وقائية” ضد العنف والتمييز والظلم واضطهاد الآخر.
وقدّم منتدى ثقافة السلام إضافة ملموسة إلى جهود الكيانات والمنظمات الكبرى في هذا المجال، ومن مكاسبه النوعية ذلك الحضور العربي البارز، الذي شمل مؤسسات وكيانات ومسؤولين من مصر والسعودية والمغرب والعراق واليمن والبحرين.
ودعا يوسف العثيمين الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي إلى بذل المزيد من الجهود للحفاظ على التراث الإنساني الثقافي والحضاري، في إطار من التنوع والتعدد والتسامح والقبول بالآخر واحترامه.
وقال إن دولا مثل العراق واليمن وسوريا شهدت تدميرا وأعمالا متعمدة تستهدف تشويه التراث بل والاتجار به لتمويل أعمال إرهابية، بما جعل التراث مهددا دائما بالخطر، وهنا تبرز قيمة التسامح كمعنى ومنهج لتفعيل جهود المنصات والمؤسسات العاملة على صون التراث الإنساني العالمي، كحق أصيل من حقوق البشر في سائر الدول محل الصراعات والأزمات.