عقبات أمام المجتمع المدني الثقافي في الجزائر
لماذا لا يوجد في الجزائر مجتمع مدني ثقافي متطور يملك الاستقلالية المادية والسياسية؟ ولماذا تخاف السلطات الجزائرية من الثقافة الحرة والمستقلة وتصر على نهج الوصاية المتطرفة على الثقافة ومنتجيها؟ وما الذي يعوق الاتحادات الثقافية والفنية والمهنية في عهد التعددية الحزبية عن تجاوز محن سيطرة النظام الجزائري عليها ماديا وتدخله سياسيا وعرقلة مشاريعها التي تتوخى المساهمة في خلق مناخ يسهل بناء ثقافة وطنية متخلصة من إكراهات سياسات الدولة البوليسية؟
في سياق طرح هذه الأسئلة أتذكر أنه منذ مدة ليست بالطويلة كانت لي جلسة مع المدير المركزي السابق المكلف بالجمعيات الثقافية بوزارة الثقافة الجزائرية وأخبرني أن عدد الجمعيات الثقافية والفنية المسجلة بالوزارة المذكورة كانت تقدر في ذلك الوقت بالمئات، وأوضح لي أيضا أنه كان يأمل بأن يشهد التمويل المالي لنشاطاتها نموا، ولكنه أكد لي بأنه من الصعب توفير الدعم الكافي لكل هذه الجمعيات والروابط جرَّاء ظروف التقشف التي كانت تعصف بالبلاد حينذاك.
ولا شك أن آلية تأسيس الروابط والجمعيات الثقافية والفنية في الجزائر لا تزال لم تشهد التطور المطلوب، سواء من حيث تنظيم الهياكل وتوفير المقرات المناسبة والاستقلالية أو من حيث الفاعلية المنتجة وذلك لأن البلاد تفتقد إلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وفضلا عن ذلك فهي لا تملك تقاليد المجتمع المدني الثقافي والفني المستقل الذي يمول نفسه ذاتيا، وزيادة على ذلك فإن الدولة الجزائرية الناشئة قد تعودت منذ الاستقلال على أسلوب التحكم المركزي في الاتحادات المهنية والثقافية.
في فترة ثمانينات القرن الماضي قام حزب جبهة التحرير الوطني بالهيمنة على مفاصل الحياة الثقافية والنشر والتوزيع والإعلام وهلمّ جرّا، ولم يختف هذا كليا حتَى رغم تبني الدولة في ما بعد للتعددية الحزبية. وقد كانت استراتيجيات حزب جبهة التحرير الوطني الانفراد بالسيطرة من خلال بذل محاولات متعددة لتسخير البعد الثقافي لخدمة أجنداته السياسية، ولقد حدث هذا بنسب متفاوتة لاتحادات الكتاب الجزائريين، والمؤرخين، والمهندسين المعماريين، والفنون التشكيلية، والفنانين والموسيقيين وهلمّ جرّا.
إن ظاهرة التقليل من أهمية الثقافة وتكبيل النشاط الجمعوي الثقافي قد أديا إلى انكماش الاتحادات الثقافية والمهنية ذات التوجه الفني والإعلامي وكل مؤسسات المجتمع المدني المفترض أنها مرتبطة عضويا بهذا الشكل أو ذاك بالفعل الثقافي. ونظرا إلى تعقيدات تداعيات هذه الأوضاع فقد ضيّعت الجزائر فرصة خلق الحياة الثقافية والفنية الخصبة في المدن الكبرى وفي الجزائر العميقة. وفي الحقيقة فإن وزارة الثقافة الجزائرية والمؤسسات التابعة لها تتحمل مسؤولية خنق المناخ الثقافي عبر الوطن خاصة وأن إنشاء مديريات ودور الثقافة وإسنادها لأشخاص تابعين للنظام الحاكم قد أضفيا على النشاطات الثقافية الرسمية طابعا سياسيا ممجوجا ومرفوضا من طرف المجتمع المدني، الذي كان يريد عدم تسييس الثقافة والفن وفك الارتباط بين الفعل الثقافي والفني وبين خطابات وإكراهات الأجهزة الرسمية التي تعوّدت على تضييق الخناق على حرية التعبير.
وفي الواقع فإن التحطيم الذي تعرض ولا يزال يتعرض له المجتمع المدني الثقافي والفني ومؤسساته الصغيرة بالجزائر يعود أصلا إلى رسوخ تقاليد التوجس من المجتمع المدني واعتباره من طرف عرّابي الأجهزة السياسية الجزائرية نفيا للدولة أو بديلا لها، وبسبب هذا انتفى لدى هؤلاء إدراك حقيقة وهي أن لكل واحدة من الأجهزة الرسمية للدولة وروابط واتحادات المجتمع المدني الثقافي، بنيته وخصائصه ووظيفته ومجالاته المختلفة، حيث أن التداخل القسري في ما بينها يفضي باستمرار إلى إعاقة الفعل الثقافي والفني الحر وإلى فرض الوصاية والمعايير المسبقة ويحول دون هندسة بيئة الحريات الثقافية.
مما يؤسف له أن إسكات صوت اتحاد الكتاب الجزائريين على مدى سنوات طويلة قد حوَّله إلى جمعية تنطق باسم وزارة الداخلية تنظيميا وباسم وزارة الثقافية من ناحية التبعية المالية. ويبدو أن التشريعات الثقافية في الجزائر معدومة أو متهافتة أو مشروطة بمزاج النظام الحاكم حينا أو برداءة من يتولون تنفيذها بطرق فجة.
إنه لحد الآن لم تتضح للمسؤولين الجزائريين على الثقافة أن المجتمع المدني الثقافي ليس مجرد هياكل وتنشيط دوري ومناسباتي وإنما هو أيضا بمثابة العقلانية الاجتماعية. وفي هذا الخصوص يرى الباحث ربيع وهبة في مقدمته لكتاب “التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع″ للمفكر ستيفن ديلو، أن تعبير المجتمع المدني “يشير إلى الأمور التي لها علاقة بالمواطن”، وأن “كلمة مدني تعبر إذن عن كل ما هو غير مدرج في قواعد وأنظمة الدولة”.
وفي الواقع فإن ثمة وجهات نظر كثيرة لكل منها تعريف متميز للمجتمع المدني، وفي هذا السياق نجد خلافا لتزمت السياسيين الجزائريين من يميز تمييزا صريحا بين أجهزة الدولة منها المدارس والجامعات التابعة لها والتي هي جزء منها وبين الروابط والجمعيات والمؤسسات الثقافية والفكرية والفنية التابعة للمجتمع المدني، التي تضاف إلى “أشكال عديدة ومختلفة من الجمعيات، غالبا ما يطلق عليها مجموعات طوعية أو مؤسسات ثانوية مثل الأسر، المنظمات الدينية، اتحاد العمال، جماعات المساعدة الذاتية، الجمعيات الخيرية، ومنظمات الأحياء”.
من الواضح أن المشكلات التي تعتري المجتمع المدني الثقافي في الجزائر لها صلة أيضا بانغلاق البلاد على نفسها منذ الاستقلال، حيث أبعدها ذلك عن الاستفادة من تجارب المجتمعات المدنية في الدول المتطورة التي تكتفي فيها وزارات الثقافة بدور المساعد المحايد في مجال تخصيب الحياة الثقافية والفنية والفكرية، إلى جانب هذا الانغلاق على التجارب الميدانية الملموسة هناك أيضا سوء فهم لأدوار ووظائف الجمعيات والروابط ومؤسسات التفكير التابعة للمجتمع المدني المستقل من طرف القوى المتحكمة في أجهزة الحكومة الجزائرية على المستوى المركزي وفي الأطراف على مستوى الأرياف والمدن الصغيرة. وأكثر من ذلك فإن البلاد الجزائرية في ظل هذا النظام الحاكم غارقة في تجاهل الفكر العالمي الذي وفر للإنسانية متنا من النظريات المهمة التي يوصي أصحابها بضرورة وعي حقيقة وهي أن التحكم في المجتمع المدني يعني مباشرة “الهيمنة السياسية والثقافية لجماعة اجتماعية على المجتمع كله باعتبارها المضمون الأخلاقي للدولة”.