الأزمة الجزائرية: نحو صنع الحل التوافقي
ما هو الحل الملائم للأزمة الجزائرية الراهنة؟ وهل وصفة الحل التي يتمسك بها الجيش في إطار التطبيق الانتقائي للدستور هي محاولة لإنقاذ النظام الحاكم وإعادة إنتاجه مجددا؟ ولماذا يرفضها الحراك الشعبي ويتمسك بدوره برحيل كل رموز النظام وإبعاد الجيش عن ممارسة السياسة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة أرى أنه من المفيد النظر أولا في التصريح الذي أدلى به سياسي جزائري معروف وفاعل داخل أوساط المعارضة الحزبية الجزائرية، حيث أكد أنه اتصل بشخصية وطنية مدنية لها وزن في المجتمع المدني الجزائري وتربطه بها علاقة وثيقة طالبا منها أن توافيه بتصور لحل جذري للأزمة الجزائرية يحقق الانفراج في المشهد السياسي الجزائري.
وكان رد هذه الشخصية الوطنية أن الحل يبدو محاصرا في المنطقة الرمادية في الوقت الراهن، ولكنه استدرك قائلا له على نحو شبه متفائل إنه يمكن تصور حل أولي في شقين اثنين، وهما تكثيف وتطوير أشكال ضغط الحراك الشعبي بشكل مفتوح على كل الاحتمالات، على صنّاع القرار في جهاز الجيش الوطني الشعبي بقيادة نائب وزير الدفاع وقائد الأركان الجنرال أحمد قايد صالح باعتبار هؤلاء هم الذين يديرون دفة الأمور في البلاد بعد تمكّنهم من إجبار الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة على تقديم الاستقالة من منصبه ثمّ عيّنوا بدلا منه عبدالقادر بن صالح رئيسا للدولة وفقا للدستور الجزائري.
وأضافت هذه الشخصية الوطنية مبرزة أن شرط نجاح ضغوط الحراك الشعبي مرهون بالنفس الطويل حتى تستجيب قيادات الجيش لمطالب الشعب الجزائري المتمثلة في إخلاء الدولة الجزائرية من جميع رموز النظام وفي المقدمة الرئيس الحالي بن صالح والوزير الأول نورالدين بدوي ورئيس البرلمان (الغرفة السفلى) معاذ بوشارب وغيرهم كثير.
أما الشق الثاني لهذا الحل المقترح في تقديره فيتلخص في خلق المناخ الذي يفضي إلى الشروع في التفاوض وذلك في إطار ثنائي الحراك الشعبي ومؤسسة الجيش بقيادة الجنرال قايد صالح، باعتبار هذه المؤسسة هي التي تتحكم راهنا في كل مفاصل النظام الحاكم في الجزائر، وذلك بهدف الوصول إلى اتفاق توافقي مؤسس على التنازلات من كلا الطرفين.
ولكن يلاحظ أن الشق الثاني من الحل المقترح يصطدم بعقبة كبيرة تتمثل في انعدام انتخاب أو اختيار رموز قيادية سياسية وروحية واضحة ضمن التركيبة البنيوية لفسيفساء الحراك الشعبي لها الشرعية، ومخولة بتمثيل قطاع واسع من الشعب الجزائري والتفاوض نيابة عنه. ولكن هناك مشكلات كثيرة يتسبب فيها تمسك الجيش الجزائري بوعوده المحصورة حتى الآن في تطبيق ما يسمى بدستور البلاد وبإجراء الانتخابات الرئاسية دون المرور بالمرحلة الانتقالية.
من البديهي أن حجة التمسك بالدستور لا تصمد أمام حقائق الواقع، لأن هذا الدستور الذي ينظر إليه كمرجعية قانونية وأخلاقية قد فصّل على مقاس الرئيس بوتفليقة وجماعته، ولا يعكس الإرادة الشعبية الحرة ولذلك فإن التمسك به يدخل في إطار يفرض القبول بالعهدات المفتوحة للانتخابات الرئاسية، وبالحكم الفردي وبسياسات الأمر الواقع السائدة في الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وهكذا فإن تمسك قيادات الجيش الوطني الشعبي الجزائري بمضامينه سيسقط الجميع في فخ استنساخ عهد بوتفليقة من جهة، ويرسخ من جهة أخرى نظام الحكم الفردي وسيحول بالتالي دون المرور إلى فضاء التفاوض، وهذا سيقضي على أي أمل في تحقيق الانفراج السياسي المنشود.
في هذا المناخ المتوتر نجد قسما كبيرا من المواطنين المنخرطين في الحراك الشعبي يعتقدون أن المحاولات التي تبذل حاليا -مثل الإسراع في تنفيذ تعيينات المسؤولين الكبار الجدد، وكلهم من أبناء النظام الحاكم ولا ينتمون إلى الحراك الشعبي أو يقومون بالتنسيق معه- من طرف كل من الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح وعدد من وزراء حكومة نورالدين بدوي على مستوى مختلف الأجهزة المكونة لجسد الدولة الجزائرية، على غرار جهاز رئاسة الجمهورية وعلى مستوى الدوائر والبلديات والمحافظات والوزارات والمجالس العليا، والسفارات والقنصليات فضلا عن المؤسسات الكبرى في كل القطاعات الوطنية، ترمي بشكل غير مباشر إما إلى فرض هيمنة الجيش على مجتمع المواطنين، أو إلى إعادة إنتاج النظام الحاكم والمستبد من جديد بوعي أو بدون وعي.
وعلى هذا الأساس تلتقي وجهات نظر الناشطين ضمن الحراك الشعبي عند نقطة مشتركة وهي أن تنازل هذا الأخير عن مطالبه، التي هي شرط أولي للتفاوض الحقيقي والمثمر أو للوصول إلى وفاق توافقي، سوف يؤدي حتما إلى نتائج سلبية في مقدمتها تبخر الانتفاضة الشعبية الجزائرية التي انطلقت منذ 22 فبراير 2019 وتحويلها إلى مجرد زوبعة في فنجان. ونظرا إلى هذا الوضع المعقد والمتميز بتناقض وجهات نظر قيادة الجيش مع وجهات نظر قطاع واسع من الحراك الشعبي، لا يمكن لأحد أن يتوهم أنه يستطيع أن يخترع حلا يتوفر على الحد الأدنى من المعقولية ويرضي جميع الأطراف.
وفي هذا السياق يبدو أن المشهد السياسي الجزائري سوف يبقى محكوما بصراع الإرادات بين عنصرين أساسيين، وهما إصرار الجيش على عدم التفريط في قراراته التي تتأسس عليها هيبته، ومشروع التغيير الجذري الذي يتمسك به الحراك الشعبي.
وفي الحقيقة فإن المسألة التي ينبغي أن يفكر فيها الفاعلون في الحراك الشعبي، الذي يتميز بكثرة التيارات المختلفة والمتباينة، تتمثل في تجنب الدوران النمطي في دائرة إنتاج تناقضات مكونات المشهد السياسي الجزائري المعهود قبل حركة التحرر الوطني وأثناء تشكل جبهة التحرير الوطني، وانتهاء بمرحلة التعددية الحزبية التي تحولت فيها الأحزاب إلى إقطاعيات تتجاذبها أهواء الزعامات الفردية حينا، والولاء المطلق لنظام الرجل الواحد حينا آخر، الأمر الذي حولها إلى ديكور شكلي يوظف من قبل النظام الحاكم كيفما شاء، وبذلك أصيبت في مقتل وجُردت من القدرة على أن تكون منصات ينطلق منها النضال مع، ولصالح، الشعب الجزائري.
في هذا السياق يرى المنشغلون بالأزمة الجزائرية أن مهام الحراك الشعبي لا ينبغي أن تنحصر فقط في المظاهرات السلمية التي تتم يوم كل جمعة، بل هم يلحون على أنه من الضروري أن تتزامن هذه المظاهرات مع بذل الجهود لخلق آليات ومنصات لتفعيل النقاش السياسي والفكري بين المكونات البشرية لهذا الحراك الشعبي ومناصريه عبر الجزائر العميقة، وذلك من أجل إنجاز أمرين ضروريين ومستعجلين وهما إنشاء أطر تنظيمية ديمقراطية تنشأ فيها قيادات للحراك عبر البلديات والدوائر والمحافظات وعلى المستوى المركزي، وتشجيع الحوار الهادف إلى بناء تصورات جادة وعلمية لأسس الدولة الوطنية الديمقراطية التي ستحل محل نظام الحكم الفردي والجهوي والعشائري، وتعد في فضائها برامج ومشاريع التنمية الوطنية الحداثية المتطورة في جميع الميادين، وتصاغ ثم تطرح فيها المبادرات الشعبية الجماعية التي يمكن أن تكون أساسا للتفاوض مع قيادات الجيش. ودون هذا فإن المبادرات المقدمة بها حتى الآن من طرف هذه الجماعة أو تلك تبقى متناثرة ولا تشكل مشروعا وطنيا جماعيا يتبناه الحراك الشعبي بالإجماع.