صفقة القرن، بالمقلوب
أزمة معقدة كأزمة الشرق الأوسط تتطلب مقاربات خلّاقة. هذا ما انتوى الرئيس الأميركي دونالد ترامب فعله أصلا. صحيح أنه لا يعرف عن هذه الأزمة أكثر مما قاله له صديقه بنيامين نتنياهو وسفيره في إسرائيل ديفيد فريدمان، وصهره جاريد كوشنر، إلا أن ما أوجزوه يعكس نمطا من التفكير جديرا بالاعتبار حقا. إنه تفكير أحادي، ولا يقيم تسويات، ولكنه صحيح، ولو من جهة جانب من التاريخ.
إنه نمط تفكير يعكس ما يعكس من غطرسة القوة، والجرأة على الواقع. إلا أنه مفيد أيضا. تستند صفقة القرن إلى تصور ساذج يقول بإمكانية تحسين حياة الفلسطينيين، لكي يتقبلوا الواقع. هذا هو جوهر الصفقة. الرفاهية بحسب هذا الافتراض سوف تحلّ محل الغضب، فلا تعود هناك حاجة لإجراء أي تغيير على المستوى الجغرافي أو السياسي. على هذا الأساس يمكن إرجاء الحكي عن دولة فلسطينية، كما يمكن للمستوطنات أن تبقى، بل ويمكن ضمها إلى إسرائيل. وذلك بما أنها جزء من الواقع الذي تريد الصفقة أن تشتري قبوله بتقديم الرفاهية لمن يعاندونه.
إنها حل حقيقي للأزمة. إنها صفقة قرن قادرة فعلا على أن تقلب مآسي قرن سبق. ولكن فقط لو أمكن أخذها بالمقلوب. لقد هاجر فقراء اليهود إلى “أرض الميعاد” طمعا باللبن والعسل. كان ذلك حلما ظل يدغدغ مئات الآلاف ممن كانوا يعيشون في غيتوهات مغلقة، ويعانون الأمرين من ظروف الفقر والاحتقار والتمييز. لم يحبوا العيش في أوروبا. وأوروبا لم تحبهم أيضا. كانوا يعيشون في كابوس كافكاوي دائم، لم يفيقوا منه إلا على كابوس أشد قهرا. اضطهاد اليهود، ظل قائما لقرون سبقت بكثير “المحرقة” النازية. وأوشفيتز لم يكن سوى القمة الظاهرة من جبل الظلم. الفقر كان الجزء غير الظاهر.
الهجرة إلى فلسطين بدت حلا مثاليا. من ناحية، للخروج من دائرة الاضطهاد المقيت. ومن ناحية أخرى، للبحث عن سبل لتحقيق الرفاهية. البرجوازية اليهودية دعمت هذا الحلم. وبرغم أن فقراء اليهود تبنوا الأفكار الاشتراكية، فإن ذلك لم يشكل معضلة أيديولوجية لتلك البرجوازية. بالعكس تماما. فقدت آثرت أن تتبرع لتمويل الحلم من ناحيتيه معا.
كل مَنْ آثر الهجرة، قبل النازية وبعدها، كان يذهب إلى فلسطين، وتاليا إلى “إسرائيل”، وهو يعرف أنه سوف يحظى بمنزل لا يدفع إيجاره، وقطعة أرض يزرعها، ودولة تحميه، ورفاهية يتم تمويلها من الدول ومن عائلات الثراء الأرستقراطي اليهودية التي بقيت في أوروبا.
اعتاد الفلسطينيون العوز والفقر والتشرد، ولكنهم لم يعتادوا الرضوخ ولم يغلبهم اليأس. مشكلتهم الحقيقية لم تكن ما إذا كانوا سيجدون طعاما اليوم أو غدا. مشكلتهم الوحيدة هي الاحتلال
ذهب مئات الآلاف، ليبنوا الحلم الاشتراكي، في كيبوتسات تحاكي الكولخوزات والسوفخوزات السوفييتية. ولكنهم فعلوا ذلك بتمويل سخي من الخارج. وأنشأوا دولة قادرة على التوسع، وخوض الحروب، وفرض ما تريد، على ضحاياها، وعلى العالم كله. ولكنها لم تهنأ بالسلام. ووُجُودُها ظل مهددا باستمرار. وما تم بناؤه بالقهر والقوة ظل يبدو هشا وهامشيا باستمرار.
أحد أهم مصادر ضعف إسرائيل كان يتجلّى في قوتها بالذات. فهي قد تملك القدرة على أن تنشر الدبابات أينما شاءت، ولكن الأرض ظلت تنطق لغة الرفض للاحتلال. وظل الفلسطينيون، بوجودهم المجرد، والمنزوع السلاح، قادرين على أن يشكلوا معضلات إستراتيجية وديمغرافية وسياسية وأمنية وأخلاقية في آن واحد.
ولقد اعتاد الفلسطينيون العوز والفقر والتشرد، ولكنهم لم يعتادوا الرضوخ ولم يغلبهم اليأس. مشكلتهم الحقيقية لم تكن ما إذا كانوا سيجدون طعاما اليوم أو غدا. مشكلتهم الوحيدة هي الاحتلال، الذي يدوس على كرامتهم ومقدّساتهم وعلى حقهم بالوجود.
تفترض صفقة القرن أنها إذا أعطت الفلسطينيين ما طمع فيه فقراء اليهود، فإن المشكلة سوف تجد حلا. هذا هو الوجه الساذج من فكرة تعطي مَنْ لا يريد ما لم يطلبه، وتحرم مَنْ يريد ما يعتبره حقا مقدسا.
أما العظيم فيها، فهو أن الأساس يمكن أن ينقلب، فتعطي اليهود الرفاهية التي جاءوا من أجلها، مقابل الأرض التي لا يريد الفلسطينيون سواها. إنها صفقة رائعة حقا. ساذجة تماما، وتعبر عن فهم سطحي، وتنظر إلى الصراع بعين اليهودي المهاجر، إلا أنها يمكن أن تشكل حلا.
ثمة بضعة ملايين من اليهود يمكنهم أن ينسحبوا من كل الأرض التي تم احتلالها بعد العام 1967، مقابل المال. بل إن هناك 7 ملايين يهودي في كل إسرائيل، يمكن لكل واحد منهم أن يصحو صباحا على ضمانات دولية وإقليمية بأن يحصل على مليون دولار، لشراء كل ما يشتهيه من اللبن والعسل. أما الفلسطيني، فسوف يغمس الزعتر بالزيت، ويهنأ بالكفاف على خبز حاف، ما دام حرا.