إسرائيل تجمع موسكو وواشنطن في تحالف جديد يحدد مستقبل المنطقة
تسعى إسرائيل جاهدة للتقريب بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا وتوحيد الجبهة بما يولد تحالفا جديدا في الشرق الأوسط، يقود المرحلة المقبلة ويضيق الخناق على إيران. لكن، هذا الوضع الجديد قد يضع النظام السوري في موقف صعب من حيث ضرورة اختيار الوقوف مع الطرف الذي سينهي معه المعركة وسيحدد مستقبل المنطقة.
خلال مؤتمر نادي فالداي للحوار حول الشرق الأوسط، الذي استضافته روسيا في سنة 2018، تناقلت وسائل الإعلام صورة لوزير الخارجية الإيراني جواد ظريف وهو جالس إلى جانب نظيره الروسي سيرجي لافروف على مقاعد جلدية بيضاء. عكست الصورة تقاربا وحميمية لافتة، دعمها ظريف بقوله “مواقف إيران وروسيا حول العديد من القضايا الإقليمية متقاربة للغاية”.
مع ذلك، لم تكن الصورة مقنعة للكثيرين ممن يعتبر التحالف الإيراني الروسي هشّا، ونهايته التفكك. ومثلما قوّى هذا التحالف أواصره في سوريا فإن نهايته، وفق المتابعين، ستكون في سوريا أيضا. فأهداف السياسة الخارجية الروسية والإيرانية تتقارب أو تتباين حسب الموضوع والمرحلة.
اليوم، بات الحديث عن التباعد، على الأقل في سوريا، أقوى من حديث التحالف، رغم السعي الروسي للتقليل من أهمية هذا التوجه، الذي بدا واضحا في وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، التي كثفت مؤخرا من الحديث عن تحالف جديد في الشرق الأوسط بدأت تظهر ملامحه بين روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة.
إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة تتفق على أن طموحات إيران في سوريا ومشروع الطريق إلى المتوسط الذي تتطلع له يمثل تهديدا إستراتيجيا لها
من المبشرين بهذا التحالف المحلل العسكري زفي بارئيل، الذي كتب في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، أن هذا “التحالف هو من سيكتب نهاية الأزمة في سوريا”. وأكّد على الفكرة ذاتها دانييل بي- سابيرة، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، مشيرا في تقرير آخر لصحيفة “هآرتس” إلى أن الاجتماع الذي تم عقده مؤخرا بين مستشاري الأمن القومي في الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل ناقش أدوات وثمن إخراج الجيش الإيراني من سوريا وتكلفة إدخال روسيا إلى المعسكر المناهض لإيران.
واتفقت إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة على عقد قمة لمستشاري الأمن القومي في إسرائيل هذا الشهر لبحث الملف الإيراني. ووفقًا لمصادر غير مؤكدة، تتوقع روسيا من الولايات المتحدة الاعتراف بنظام الأسد ورفع العقوبات. في المقابل، ستعمل روسيا على طرد إيران من سوريا.
ويرى بارئيل أن هذا الاجتماع غير عادي، حيث ستبحث الدول الثلاث التطورات الإقليمية باعتبار هذه الدول شركاء متساوين، مشيرا إلى أن مثل هذه القمة، حتى لو لم تسفر عن نتائج ملموسة فورية، تبعث برسالة إلى إيران والمنطقة تفيد بأن المحور الروسي الأميركي الإسرائيلي هو الذي سيصوغ خارطة الطريق الجديدة للشرق الأوسط.
أهمية الدور الروسي
ركزت التغطية الإسرائيلية على أهمية الدور الروسي والعلاقات الإسرائيلية الروسية، التي يمكن أن تخلق، إلى جانب العلاقات الإسرائيلية الأميركية، توازنا تحتاج إليه إسرائيل في المنطقة.
وبدا ذلك واضحا من خلال دراسة نشرها موقع مؤتمر هرتسيليا، جاء فيها أن إسرائيل والولايات المتحدة تنظران إلى روسيا بشكل مختلف؛ فبالنسبة إلى صانعي السياسة الأميركيين، تعد منافسة القوى الكبرى مع روسيا (والصين) عنصرا رئيسيا في إستراتيجية الأمن القومي الأميركي وإستراتيجية الدفاع.
وتقول الدراسة، التي أعدها عدد من الخبراء في الأمن القومي الإسرائيلي، يعرف الإسرائيليون اهتمامات واشنطن الإستراتيجية وضرورة الحفاظ على نظام دولي تقوده الولايات المتحدة، لكنهم مجبرون على إشراك روسيا. وهو ترتيب تنظر إليه إسرائيل من خلال عدسة التهديد الذي تشكله إيران في سوريا. وإحباط مخططات إيران في سوريا يأتي في مصلحة إسرائيل على أعلى مستوى.
وتخلص الدراسة إلى أنه في النهاية يجب على إسرائيل أن تتعامل إستراتيجيا وتكتيكيا مع قوة خارجية جديدة على حدودها بطريقة لا يمكن تصورها بالنسبة إلى الأميركيين، حيث تتمتع روسيا بحماية جيدة من المحيطين والجيران الودودين والمستقرين. ودون تبادل مخصص ومنتظم حول الشؤون الروسية بين الحليفين، قد تزداد الأفكار الخاطئة وسوء الفهم.
تأتي أهمية هذه الدراسة من كونها ورقة من بين مجموعة أوراق وأبحاث، أعدها خبراء إسرائيليون، لمناقشتها خلال مؤتمر هرتسيليا، الذي يعدّ المؤتمر الأمني الإسرائيلي الأهم، ويعقد من 30 يونيو إلى 2 يوليو. ويطلق على هذا المؤتمر اسم عقل إسرائيل الإستراتيجي، ويتابعه مختلف المسؤولين في العالم باعتباره مقياسا ومؤشر على ما يمكن أن تشهده المنطقة من تطورات.
وعلى غرار السنوات السابقة، ستكون إيران حاضرة بقوة في مؤتمر هرتسيليا. وسبق أن ناقش مؤتمر السنة الماضية الإستراتيجية الأميركية لمواجهة إيران، في عهد دونالد ترامب، وستكون إستراتيجية التعاون مع روسيا محور مؤتمر هذه السنة. ويراهن الإسرائيليون على التصدّعات الحاصلة في العلاقة الروسية الإيرانية في سوريا، والتي عكستها عدة تطورات من ذلك الاشتباكات المحلية الأخيرة بين الميليشيات الموالية لإيران والميليشيات التي تدعمها روسيا.
ويعلق زفي بارئيل على هذه الاشتباكات مشيرا إلى أنها تبدو في الظاهر حوادث محلية، لكن الأمر يختلف على نطاق أوسع حيث تدرب روسيا الميليشيات المحلية وتسلحها عبر شركاتها الخاصة. يرتدي المقاتلون زي الجيش الروسي ويستخدمون أسلحة البلاد. ويقول المحلل الإسرائيلي إن روسيا أعطت الضوء الأخضر لقوات النظام السوري لإطلاق النار على الضباط والجنود الموالين لإيران. كما يتولى الضباط الروس قيادة بعض وحدات الجيش السوري.
في خضم ذلك، وجهت روسيا صفعتين مؤلمتين لإيران. كانت الأولى عندما رفضت روسيا طلبا إيرانيا لشراء منظومة الدفاع الصاروخية إس 400. أما الثانية، فقد تمثلت في تعاون روسيا مع إسرائيل من خلال تعطيل منظومة الدفاع الصاروخي إس 300 تزامنا مع كل هجوم إسرائيلي على سوريا.
وعندما تحدث ترامب عن رغبته في التفاوض مع إيران دون شروط مسبقة، رفضت إيران ذلك بينما بقيت روسيا صامتة. وحين أعلنت إيران عن قرارها تخفيض مدى التزامها بالاتفاق النووي أعلنت في بيان أنها “تتفهم” موقف إيران، إلا أنه بعد أيام على ذلك نصح فلاديمير بوتين إيران بالبقاء في الاتفاق النووي، بل ذهب أبعد من ذلك عندما قال “روسيا ليست فرقة إطفاء، ونحن غير قادرين على إنقاذ كل شيء، خاصة ما لا يعتمد على إرادتنا بالكامل”.
بالنسبة إلى إيران، هذه التصريحات رسالة تدل على أن روسيا لن تقف إلى جانبها إذا هاجمتها الولايات المتحدة أو إسرائيل. كما فهمت أن لروسيا مصلحة في إبقاء إيران معزولة.
ويبدوا واضحا أن تحول موقف بوتين أغضب المسؤولين في طهران. وكتب السفير الإيراني السابق لدى الأمم المتحدة، علي خرّم في صحيفة آرمان اليومية “طعنت روسيا إيران في ظهرها فيما يتعلق بسوريا”.
تاريخ معقد
يجمع روسيا وإيران تاريخ معقد من الصراعات ما يجعلهما بعيدتين كل البعد عن أن تكونا حليفتين طبيعيتين. فعلى مدى قرون، كانت روسيا المجاورة والإمبراطوريات الفارسية طرفين متنافسين. وخاضتا سلسلة من الحروب بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، ما أجبر إيران على التنازل عن أراض لروسيا في ما أصبح اليوم بلدان جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، إلى جانب ممتلكات أخرى في القوقاز وآسيا الوسطى.
وأدى احتلال روسيا لإيران أثناء الحرب العالمية الثانية -ورفضها المغادرة بعد ذلك- إلى أولى الأزمات في مجلس الأمن الدولي الذي كان حديث النشأة آنذاك. وكان النظام الملكي الإيراني يخشى النظام الشيوعي إلى درجة أنَّه سمح لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ببناء موقع تنصت كبير بمحاذاة الحدود. وبعد ثورة 1979، أدانت الجمهورية الإسلامية حديثة النشأة جارتها “الملحدة”.
وخلال الحرب الإيرانية العراقية سلّح الاتحاد السوفييتي العراق وقدّم له المشورة. وكانت موسكو محل عداء الإيرانيين على قدر عداء واشنطن. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، تحسَّنت العلاقات بشكل محدود ولغرض خدمة مصالح ذاتية؛ إذ تولَّت روسيا الضعيفة بناء مفاعل نووي تجاري في مدينة بوشهر الساحلية جنوب غرب البلاد.
ويلفت ديمتري ترنين، مدير مركز كارنيغي- موسكو، إلى أن أساس العلاقات بين روسيا وإيران ضعيف وغير متوازن نسبيا؛ فالعلاقات الاقتصادية ضعيفة وغير مؤثرة، فضلا عن انعدام الثقة المتبادلة.
ويضيف ترنين أن أكثر ما يمكن أن تأمله موسكو وطهران هو علاقة براغماتية قائمة على مصالح الدولتين، على النحو الذي يحدده قادتهما، حيث يختلف ثقل كلا الدولتين وكذلك شبكة اتصالاتهما الدولية بشكل كبير، مما يخلق عدم تناسق واضحا.
موقف الأسد
في بداية التحالف غطى صوت المدفعية الروسية المتقدمة في سوريا على الشقوق في التحالف الروسي الإيراني في سوريا، لكن مع تقدم الوضع واستعادة نظام الأسد، بدعم روسي وإيراني، لجزء كبير من الأراضي، وتغير المعادلة بحيث خفت الحديث الأممي والدولي عن نهاية نظام الأسد، بدأت الاختلافات تظهر على السطح وتعلو مع علو الحديث عن إعادة إعمار سوريا ومرحلة ما بعد الحرب.
ولا تنوي روسيا إعادة سوريا إلى سيطرة الأسد ببساطة، فهي ترى في البلاد قوة ضغط تعزز قبضتها على الشرق الأوسط. ويخدم ذلك خططها في بناء روابط مع المملكة العربية السعودية وبقاء طويل الأمد في الشرق الأوسط، وإقامة تحالف اقتصادي مع مصر عبر منحها المساعدات العسكرية، والتخلص من العقوبات الأميركية والأوروبية، وبالتالي تعزيز مكانتها في العالم.
وترى إلينا سوبونينا، الخبيرة الروسية في شؤون الشرق الأوسط، أن روسيا ترغب في أن تسيطر الحكومة السورية على أكبر مساحة ممكنة. يؤكد على ذلك أيضا رئيس مركز المشرق للدراسات الإستراتيجية في بيروت، سامي نادر بقوله “تحمل روسيا مصلحة في إخراج إيران من سوريا وإضعافها دون التسبب في انهيارها لأنها قد تخسر بذلك نظام الأسد الذي تعتبره ورقة رئيسية في لعبتها. إنها تريد إبقاء إيران تحت سيطرتها ورقابتها”.
لكن هذه الطموحات الروسية لا تتوافق مع رغبة إيران؛ ترى طهران في سوريا موقعا إستراتيجيا يحافظ على نفوذها في لبنان، ومحطة إقليمية لا تقل أهمية عن العراق للبقاء فاعلا مؤثرا في المنطقة. كما تفتح سوريا الطريق إلى البحر المتوسط أمام إيران وتكمّل التحالفات التي أقامتها مع العراق وتركيا.
وترى كل من إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا هذا كتهديد إستراتيجي لها. وهنا يطرح سؤال كبير لا يتعلق فقط بالموقف الإيراني مما يجري، بل يتعلق أيضا بموقف النظام السوري الذي يدين لموسكو وطهران على حد السواء، باستمراره وبالوضع الذي وصلت إليه المعادلة بعد ثماني سنوات من الحرب.
يستطلع زفي بارئيل فرص النظام السوري مشيرا إلى أن خيار قيام روسيا بإخراج القوات الإيرانية من سوريا ما زال “غير واقعي”. وسبق أن فشلت روسيا أيضا في الوفاء بوعدها بإبقاء القوات الإيرانية على بعد أكثر من 80 كيلومترا من حدود إسرائيل في مرتفعات الجولان، وهناك شكوك حول ما إذا كان بإمكانها جعل إيران تنسحب في هذه المرحلة.
وكان الصحافي باراك رافيد قد صرح على القناة 13 الإسرائيلية بأن روسيا عرضت على إسرائيل إقناع إيران بالانسحاب من سوريا في مقابل أن ترفع عنها الولايات المتحدة العقوبات. ولكن رفضت إسرائيل الاقتراح.
وهنا يشير بارئيل إلى فرضية أخرى وهي الضغط على الأسد لإخراج القوات الإيرانية من سوريا، لأنه يبقى الطرف الذي دعاها. وستجد إيران صعوبة في البقاء هناك إذا لم تجد الترحيب الذي عهدته. في المقابل، قد يعترف الجانب الأميركي بنظام الأسد لتعده إسرائيل حينها بعدم مهاجمة سوريا بعد رحيل القوات الإيرانية. كما قد يتلقى نظامه التزاما من دول المنطقة بالمشاركة في تمويل إعادة بناء البلاد، إلى جانب التمتع بالدعم الإستراتيجي الروسي. وتعتبر قيمة هذه الوعود أكبر مما يمكن أن تقدمه إيران لسوريا.
لكن مشكلة الأسد تكمن في أنه سيتعين عليه أن يشرح لإيران سبب رحيلها وبقاء روسيا إذا وافق على طرد القوات الإيرانية. كما سيجد نفسه معتمدا على الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا التي صرحت بأن اهتمامها بسوريا لا يقتصر على شخص واحد. بمعنى آخر، لا تهتم هذه الأطراف بمصير الأسد في نهاية المطاف.
في المقابل، دعمت إيران الأسد منذ البداية، ومنحته مساعدات تصل إلى 8 مليارات دولار. كانت إيران موجودة في صف الأسد قبل بدء الحرب بفترة طويلة. ما زال من المبكر الحديث عن تحديد موقف واضح، سواء من جهة الأسد أو من جهة إيران وروسيا، خاصة وأن معركة إدلب مفتوحة، وتركيا طرف آخر فاعل ومؤثر علاقته منقسمة بين واشنطن وموسكو.
لكن، في النهاية كل الأوراق تلتقي عند نقطة مشتركة، وفي لحظة ما سيتعين عليها تحديد اتجاهها وترك باب واحد مفتوح. وإذا كانت البداية بغلق صفحة تنظيم داعش، فإن الخبراء يتوقعون أن تكون الصفحة التالية هي صفحة ميليشيات إيران.