المغرب العربي مختبر للمستقبل

بعد أن أفسدتها النزاعات السياسية، وسمّمتها قضايا مصطنعة وملفقة، ها هي كرة القدم تدخل على الخط في سعي من عشاقها، وأنصارها لتعكير العلاقات بين تونس والمغرب. وهذا ما حدث إثر المباراة بين الترجي الرياضي التونسي والوداد المغربي ليلة السابع والعشرين من رمضان هذا العام.

وكما هو معلوم انسحب الفريق المغربي الضيف من المقابلة احتجاجا على ما اعتبره انحيازا من الحكم للفريق التونسي. وقد استغلت بعض وسائل الإعلام في البلدين تلك المباراة التي سادها التشنج منذ البداية، لكي تصب المزيد من الزيت على النار، سامحة لنفسها باستعمال طرق بذيئة وقذرة بهدف تعكير العلاقات التاريخية بين بلدين شقيقين تآزرا وتضامنا في الأوقات العصيبة، وتشاركا في الأفراح والأتراح.

والأمرّ من ذلك، أن بعض الشخصيات السياسية، خصوصا في تونس، انخرطت في الجوقة الشعبوية، وراحت تطلق التصريحات المتشنجة، مُتخلّية عن رصانتها، وهدوئها، ناسية أن الوحدة المغاربية حلم من الأحلام الكبيرة يتوجب العمل على تحقيقه، عوض العبث به وتشجيع الأعداء الذين يتحيّنون الفرص في كل مرة لنسفه وتقويضه.

صحيح أن البعض من رجال السياسة الكبار في كل من تونس، والجزائر، والمغرب كانوا، وربما لا يزالون أوفياء لمشروع الوحدة المغاربية التي يدعمها ويزكيها تاريخ مشترك منذ العصور القديمة، وحتى العصر الحديث. ولكن السياسة وتقلباتها ودسائسها عرقلت في أكثر من مرة مجهوداتهم، ليظل مشروع الوحدة المغاربية حبيس المكاتب الرمادية.

الأمل الوحيد للخروج من الأزمات الخطيرة التي تتخبط فيها الدول المغاربية على مستويات مختلفة ومتعددة، هو قبول دولها ونخبها وشعوبها بمشروع الوحدة

أما الثقافة فقد كانت، ولا تزال، هي الجامعة بين الشعوب المغاربية؛ فعلماء القيروان هم الذين أسسوا جامعة القرويين المرموقة. وعندما ضرب الطاعون تونس، وقَتَل جلّ أفراد عائلته، التحق ابن خلدون بالشيخ الآبلي، أستاذه في جامع الزيتونة، والذي قرر العودة إلى فاس إثر الطاعون الجارف، ليدرّس في جامعة القرويين. وكان فضل المغرب على ابن خلدون عظيما. ففي فاس، ثم في الأندلس اكتمل نضج ابن خلدون الفكري، والسياسي. وفي قلعة بني سلامة، الواقعة في ما كان يسمى قديما بـ”المغرب الأوسط” (الجزائر الآن) كتب مقدمته الشهيرة.

وخلال الفترة الاستعمارية، وجد الجزائريون في جامع الزيتونة، وفي جامعة القرويين، ما ساعدهم على الحفاظ على هويتهم العربية- الإسلامية التي كان الفرنسيون يعملون على محوها. وفي مذكراته، يُفرد المؤرخ والمناضل الجزائري الكبير أحمد توفيق المدني فصولا مهمة عن النشاطات الثقافية والفكرية والسياسية للطلبة والمثقفين الجزائريين في تونس في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. كما يتحدث عن علاقاته الوثيقة بالمناضلين والمثقفين التونسيين خصوصا مع الشيخ عبدالعزيز الثعالبي، مؤسس الحزب الدستوري التونسي، والذي كان من أصول جزائرية.

وعرّف الشاعر التونسي الكبير أبوالقاسم الشابي بالشعر والشعراء في المغرب الأقصى من خلال مقالات نشرها في الصحف التونسية في نهاية العشرينات من القرن الماضي. وأما الكاتب التونسي محمد صالح الجابري الذي حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة الجزائرية، فقد خصص كتابا مهما عن الأدب الجزائري المعاصر المكتوب بالعربية ليكون مرجعا أساسيا في هذا المجال.

وكان الشاعر الجزائري مفدي زكريا يكنى بـ”شاعر المغرب العربي” لأنه كان يتغنى بنضالات الشعوب المغاربية في فترة النضال ضد الاستعمار الفرنسي. وفي كتابه “تاريخ المغرب”، ركز المفكر المغربي الكبير عبدالله العروي على الجوانب المشتركة ين البلدان المغاربية خلال الحقبة الرومانية والإسلامية. ومن جامع الزيتونة، تخرّج الروائي الجزائري المرموق الطاهر وطار.

وعندما احتدت الخلافات بينه وبين نظام بورقيبة بعد الاستقلال، فرّ المفكر الكبير عفيف الأخضر من تونس إلى باريس، ثم انطلق إلى الجزائر بعد حصولها على الاستقلال، ليكون مستشارا للرئيس أحمد بن بلة. وكان الجزائري كاتب ياسين في تونس لما اندلعت حرب الجلاء عن بنزرت فكتب عن تلك المعركة مقالات بديعة نوّه فيها بالوحدة النضالية بين الشعوب المغاربية.

حلم الوحدة كان وما زال حلم الكثير من المثقفين والنخب في بلدان المغرب العربي ولكن أفسدته الكثير من العوامل

وفي نص له بعنوان “المغرب العربي اليوم” كتبه بمناسبة مرور خمسين عاما على استقلال كل من المغرب وتونس، طرح عبدالكبير الخطيبي الذي كان شاعرا، وروائيا، وناقدا، وعالم اجتماع، الأسئلة التالية: ما هي الصورة التي أصبح عليها المغرب العربي مطلع القرن الواحد والعشرين؟ ولماذا هذه الاستحالة لتعايش الشعوب المغاربية مع بعضها البعض؟ وأين القوى الحاملة لمشروع الوحدة المغاربية؟ وهل الدول القائمة على صورتها الحالية، صورة الدولة- الأمة، جاهزة للاستجابة إلى مطلب الوحدة؟ وهل هي تنصت للأجيال الجديدة، وتتفهم خوفها من المستقبل؟ وماذا أعدّت الطبقات المتوسطة والنخب للمشاركة في إنجاز الوحدة؟

ويعترف الخطيبي أنه تصعب عليه الإجابة على هذه الأسئلة الحارقة لأسباب عدة، منها مثلا أن الحوار بين المغاربة يكاد يكون منعدما برغم اللقاءات الكثيرة التي تحدث بين رجال السياسة والاقتصاد، ورموز النخبة. كما أن كل بلد مغاربي ينظر إلى جاره الذي يكون على يمينه، أو على يساره بريبة وحذر. لذلك تنتهي اللقاءات بين القادة السياسيين وكل واحد منهم مدير ظهره للآخر.

ويرى الخطيبي أن الأمل الوحيد للخروج من الأزمات الخطيرة التي تتخبط فيها الدول المغاربية على مستويات مختلفة ومتعددة، هو قبول دولها ونخبها وشعوبها بمشروع الوحدة. فالمغرب العربي في نظره، ليس حلما طوباويا، ولا كارثة، وإنما هو فرصة ذهبية لجميع شعوبه، إذ أن كل شيء في الواقع يحرض على بنائه لتجنب المخاطر والتحديات التي يخفيها المستقبل القريب والبعيد.

ويعتقد عبدالكبير الخطيبي أن على الدول المغاربية ألّا تظلّ سجينة الماضي، ومشاكله، وقضاياه، وإشكالياته التي أحدثت جفاء هنا، وفرقة هناك، بل عليها أن تفكر في بناء فضاء لتعايش دائم ومستمر بين الشعوب المغاربية، إذ أن المغرب العربي “مختبر للمستقبل”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: