العنف يأكل الأخبار
يتسرب العنف في أشكاله المختلفة، اللفظية، الصورية والمكتوبة، حتى صار العنف اليومي جزءا من وجود البشر.
هنالك صراعات تتفجر بين حين وآخر وتهديدات بالعنف المفضي إلى الصراع والحرب يطلقها ساسة وزعماء دول يمضون في مسيرة البشرية المتصارعة منذ قابيل وهابيل.
وإذا كان المعنيون بالإنتاج السمعي- البصري قد حسموا أمرهم فصنفوا الإبداع السينمائي والتلفزيوني، الدرامي والوثائقي بحسب درجة ومستوى العنف الذي يحتويه فإن ذلك لم يحصل في وسائط أخرى.
حضرت مرة مهرجانا سينمائيا دوليا يعنى بأفلام الفانتازيا، بما فيها أفلام الرعب والعنف فوجدت القوم قد ذيلوا كل فيلم بحسب درجة ومستوى العنف والرعب فمثلا وضعوا فأسا يقطر دما أو فأسين أو ثلاثا بحسب درجة العنف والجريمة ووضعوا وجه شبح أو وجهين أو ثلاثة لأفلام الرعب.
واقعيا إن هذا التصنيف المتعلق بالصورة التي تؤثر في المشاهد من خلال مشاهد الرعب والعنف والقتل وما يعرف رقابيا أيضا الغرافيك، هذا التصنيف بسبب تفاعل المشاهد مع الصورة ومن ثم التأثير في الفئات العمرية والأقل سنا من مراهقين وأطفال.
الذكاء الاصطناعي دخل على الخط، ليس لجهة تصنيف الأفلام بل تصنيف النصوص المكتوبة للسينما والتلفزيون، فقد تدخل الذكاء الاصطناعي في قراءة سيناريو الأفلام الأكثر عنفا وصار ممكنا تشخيص ما فيها من مستوى العنف وهل يتطابق ذلك مع المعايير التي وضعتها الجهة المنتجة.
لكننا في عالم الصحافة والميديا المكتوبة نجد أنفسنا غارقين في قصص العنف وأخبار العنف والتهديدات بالعنف.
وفي الوقت نفسه لا نجد تصنيفا يذكر للخطاب المكتوب في ما إذا كان يصنف ضمن فئة القصة العنيفة ولمن يوجّه ذلك الخطاب العنيف، ولأي فئة من المتلقين.
يذهب الباحث ميكائيل سالتر في كتابه المميز عن العنف في الصحافة والميديا والتلفزيون، إلى أن الصحافة بأشكالها المكتوبة منها أو الصحافة التلفزيونية وحتى أنواع الريبورتاجات صارت في الأزمنة الراهنة ميدانا خصبا لأشكال شتى من خطاب العنف غير المسيطر عليه والذي تحول من فرط انتشاره إلى شكل مألوف لا خلاف عليه.
في منصات التواصل الاجتماعي شهدنا تدفقا غير مسبوق لقصص العنف المكتوبة كما المصورة والتي هي نوع من الخطاب العنيف الخارج عن السيطرة.
بالأمس القريب كان تنظيم داعش الإرهابي يصول ويجول في منصات التواصل الاجتماعي، فيما كانت أذرعه وتابعوه يعيدون نشر المحتوى الإجرامي بكل أشكاله من دون رقيب ولا حسيب.
كان ذلك أكبر اختبار ودليل على عجز تلك الوسائط عن السيطرة على القصص العنيفة أو المحرضة على العنف والإرهاب في سقطة غير مسبوقة ولا مثيل لها حتى صارت منصات التواصل الاجتماعي بانتشارها واستخدامها الواسع بمثابة وزارة إعلام مكتملة في خدمة الخطاب العنيف ثم أفاقت إدارات تلك المنصات فوجدت ذلك الطوفان من السموم فبدأت بالتصدي له بالتدريج بإقفال الصفحات التي تنشر أخبار العنف والإرهاب أو تحرض عليه أو تمجده.
كان ذلك مثالا حيا لما وصلنا إليه، لكن السؤال هو، هل تمت تنقية جميع الوسائط الاتصالية من تلك المضامين؟
واقعيا إن الجواب هو كلا.
الظاهرة لا تزال تفعل فعلها وتنتشر بكثافة حيث يتوارى خطاب العنف تحت شتى الأغطية ويغدو بناء على ذلك مقبولا ومتداولا بصرف النظر عن درجة ومستوى المحتوى العنيف فالأصل هو التدفق الإخباري لاسيما وأن النقل الإخباري من مواقع الصراعات والحروب لا يمكن إلا أن يحمل ذلك المحتوى العنيف بشتى مستوياته.
من هنا وجدنا أن الصحافة غير معنية بإحصاء ولا تصنيف كمّ ونوع الخطاب العنيف، ولا تصنيف الأخبار بحسب الدرجة والتأثير، فاللهاث وراء الأخبار اليومية لم يعد يتيح مثل تلك الوظيفة حتى صار العنف يتسلل بقوة ويأكل متن الخبر ويشوه محتواه في بعض الأحيان.