إسرائيل تحصد مزايا صفقة القرن وتتنصل منها عمليا
ضربت الإدارة الأميركية مواعيد مختلفة للإعلان رسميا عن تفاصيل صفقة القرن ولم توف بها، وبدأت الشكوك تدور حولها. وعدت في آخر طبعة لها أن يكون ذلك عقب شهر رمضان. وهو توقيت ليس له علاقة بالشهر الكريم وطقوسه، لكنه يأتي تاليا بأيام قليلة ليوم 29 مايو، كآخر موعد لانتهاء بنيامين نتنياهو من تشكيل حكومته الجديدة.
أخفق الرجل في التوافق مع بعض الأحزاب، وتقررت إعادة انتخابات الكنيست في سبتمبر المقبل، ما يعني أن نتنياهو سيصبح بطة عرجاء الأسابيع القادمة، ولن يستطيع الحل والعقد في كثير من القضايا، ولن يتمكن من الموافقة على صفقة كبيرة من النوع الذي يتكفل بطي صفحات من الصراع التاريخي المزمن، حتى لو حملت مزايا ووعودا براقة لإسرائيل.
تجاوز رئيس الحكومة الإسرائيلية عملية الاستجابة للشق الآخر في الصفقة، والخاص بتنفيذ عدد من الالتزامات المصيرية، فقد حصل على المكاسب التي يريدها، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وتجمدت المطالبات بوقف الاستيطان والصمت على التوسع فيه. وسقطت تقريبا ورقة عودة اللاجئين، علاوة على كثير من المضامين الحيوية، وأهمها ما يخص الحدود التي تنبثق منها فكرة حل الدولتين.
كما انتزع اعترافا أميركيا غير مسبوق يتعلق بأحقية السيطرة على هضبة الجولان السورية، وتحجيم الضجيج الدولي حول الخطوة المثيرة. كلها محطات الغرض منها تشجيع نتنياهو على القبول بصفقة القرن كاملة، وفتح المجال أمام دونالد ترامب ليدخل التاريخ من هذا الباب الصعب، واسترضاء إسرائيل وتشجيعها على عدم ممانعة الإجراءات التي تتبناها واشنطن.
عندما حان وقت التنازلات جاءت حيلة عدم القدرة على تشكيل الحكومة في موعدها، لأنها الوسيلة الوحيدة الكفيلة بأن تسكت معها تصريحات ترامب وطاقمه الاستشاري، فأي تبريرات أو تفسيرات للتنصل من الوعود لن تصبح مجدية أو مقنعة.
انطفأت معالم الصخب الذي صاحب زيارة جاريد كوشنير، مستشار ترامب السياسي، لإسرائيل في 30 مايو الماضي، باعتبارها ستشهد إعلانا تفصيليا وتدشينا عمليا لبنود الصفقة، لأن نتنياهو أخفق في تشكيل الحكومة، وبالتالي لن يستطيع تحمل مسؤولية المجازفة بمفرده.
أنقذ عدم تشكيل الحكومة، عن قصد أو بدونه، نتنياهو من الوقوع في ورطة أمام الناخبين والأحزاب اليمينية واليسارية المناوئة له، والذين تربصوا به كثيرا، وانتظروا إعلان قبوله الصفقة ليكشفوا حجم ما يصفونه بالتواطؤ على أمن إسرائيل، وهو الذي يتذرع دوما بالدفاع عنها، وتأكيد أنه لن يقدم تنازلات للشعب الفلسطيني مهما كان الثمن، كما أنه غير مضطر إلى هذه التضحية أصلا.
أفلحت الطريقة التي لجأ إليها نتنياهو في تفويت الفرصة على خصومه، ونجحت في امتصاص حدة الغضب الأميركي، وجرى تسويق المشهد على أنه خارج عن الإرادة السياسية، ما يعني ترحيلا آخر لصفقة لم يتم الإعداد لها جيدا، واعتمدت على قرارات فوقية. وكشفت مدى جهل طاقم ترامب الاستشاري لطبيعة الأوضاع على الأرض، لأن المسألة أكبر من كونها رغبة جامحة انتابت هؤلاء، أو مدخلا لترك بصمة لإدارة أميركية لم تحسن تقدير فك شفرة العديد من الصراعات الإقليمية.
أبدت بعض الدول العربية تحفظاتها منذ اللحظات الأولى التي وطأت فيها أقدام كوشنير وجيسون غرينبلات، المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، المنطقة، وتم فتح المزاد حول الأدوات اللازمة لحل القضية الفلسطينية، وقتها شعر خبراء عرب التقوا الرجلين أنهما بحاجة إلى سنوات طويلة لفهم الأبعاد الحقيقية للصراع قبل الحديث عن آليات حله، وبدا كلاهما منساقا نحو أفكار خيالية ويريد إنزالها عنوة على أرض الواقع.
ارتاحت دول عربية كثيرة لهذه الصفات المهزوزة، فهي كفيلة بإفساد الطبخة، ولم تكلف نفسها عناء الدخول في صدامات مبكرة مع واشنطن عقب تناثر القصص والحكايات التي تتسرب من وقت لآخر، وكانت على يقين من أن الصفقة لن تمر بسهولة لأسباب إسرائيلية، وليست فلسطينية؛ فلا يوجد اسحق رابين، أو مناحم بيغن، يستطيع التضحية وإتمام صفقات إستراتيجية، كما أن الأجواء الإقليمية القلقة والتوازنات الدولية المتغيرة غير مهيأة لاستقبال تسوية تعسفية.
حملت الطريقة التي جرى التعامل بها تشاؤما بالغا، وتتنافى مع الخبرات التاريخية. وربما لعب العجز العربي والتدهور الفلسطيني دورا مهما في الجرأة التي دفعت ترامب إلى الإقدام على التفكير في الخطة، مستفيدا من يقينه المطلق بأنه من الممكن تمرير الترتيبات التي جهّز لها دون تكاليف باهظة، ورأى أن طريقة التاجر الشاطر القادر على تسويق بضاعة فاسدة سوف تكون مجدية ويتم بلعها.
لم يكن التجاوب العربي لافتا مع تصورات ترامب للتسوية السياسية. لذلك غضت الدول المؤثرة الطرف عن التعامل مع تفاصيل ما رشح حول الصفقة من قريب أو بعيد، وتجاهلت التسريبات والتجليات، وهناك من أعلنوا عدم معرفتهم بها أصلا أو تنصلوا منها مؤخرا، لأن المشاورات التي تمت مع البعض لم تكن مباشرة أو في صميم عملية السلام، وتعمدوا اللجوء إلى طرق التفافية، والحديث عن مشروعات تفضي إلى واقع مغاير في المنطقة، دخلت فيه حسابات إقليمية متشابكة أوحت بأن إسرائيل رقم مركزي فيها قبل الشروع في التخلص من موروثات مؤلمة.
ينعكس تأخير الإعلان لأجل غير مسمى على جدية مؤتمر المنامة قبل نهاية الشهر الجاري، والذي قيل إنه يدشن الجانب الاقتصادي في الصفقة، التي لجأت إلى تطبيق بنودها تدريجيا. فقد استوعبت الدول العربية الدرس، فإذا عقد وحضر البعض فهذا لا يعني موافقة صريحة أو ضمنية على الصفقة، لأن الجهة المسؤولة عنها، وهي الشعب الفلسطيني بأطيافه المختلفة، أعلنت رفضها وتتمسك بفضح المخاطر التي تنطوي عليها.
توهمت الإدارة الأميركية أن العجز الفلسطيني كفيل بالقبول بأي تسوية، مهما كان ترهلها، لكنها فوجئت بأن الضعف يتحول إلى قوة معنوية، وبدأت تتراجع التجاذبات بين القوى الفلسطينية ويمكن أن تتوارى حال التصميم على استمرار الترويج للصفقة المزعومة، وتؤدي إلى تقوية الجسم الوطني. فالمكونات التي تحملها، إذا افترضنا القبول الإسرائيلي بها، سوف تكون وبالا على الجميع، ولن تستطيع قوة فلسطينية التسليم بها.
أدركت بعض الدوائر العربية هذه المفارقة، ولم تجهد نفسها للدخول في مهاترات سياسية للقبول أو الرفض، واعتمدت على أن عنصر الوقت قد يكون كفيلا بإجهاض الصفقة تلقائيا وليس تمريرها.
عندما تنتهي إسرائيل من إجراء الانتخابات قد يدخل نتنياهو أو غيره من المنافسين المعمعة مرة ثانية لتشكيل الحكومة. وقتها سوف يكون ترامب مستعدّا لدخول الانتخابات الرئاسية لفترة ثانية، بداية العام المقبل، ولن يقدم على مجازفة طرح الصفقة رسميا، فالمقدمات والنتائج لا تبشران بالخير، والخطأ في هذا التوقيت ربما يكلفه مستقبله السياسي.
لذلك من الممكن أن يطويها النسيان، الأمر الذي ستجد فيه إسرائيل والعرب فرصة لعدم تحمل نتيجة الفشل السياسي، ويدخل المد والجزر حول القضية الفلسطينية طورا جديدا.