هل يكون بن صالح الواجهة المدنية لحكم عسكري في الجزائر
يستمر غموض المشهد السياسي في الجزائر في ظل غياب بوادر انفراج للأزمة، واشتداد القبضة الحديدية بين السلطة الفعلية في البلاد وبين المحتجين. ففيما تصر الهيئات الانتقالية ومن ورائها المؤسسة العسكرية على عدم الخروج عن النص الدستوري، يشدّد الحراك الشعبي على رفض أي انتقال سياسي في البلاد بأدوات قديمة.
جدّد الجيش الجزائري تمسكه بالدستور لإيجاد حل للأزمة السياسية مع استبعاد أي “مرحلة انتقالية”، في ظل رفض الحركة الاحتجاجية لعروض الحوار التي أطلقها كل من رئيس الأركان والرئيس الانتقالي، كما عبّرت عن ذلك في تظاهرة الجمعة.
وكتبت مجلة “الجيش” الناطقة باسم المؤسسة العسكرية، في افتتاحية عددها لشهر يونيو أن “حل الأزمة يمرّ حتما عبر ترجيح الشرعية الدستورية التي تتيح للشعب ممارسة حقه في انتخاب رئيس جمهورية في أقرب وقت ممكن”.
ولم تتأخر مجلة الجيش في التعبير عن رؤية العسكر المتناغمة مع دعوة الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح، للطبقة السياسية إلى الدخول في حوار سياسي شامل يمهد الطريق لتنظيم انتخابات رئاسية في الأفق، حيث تضمنت افتتاحية عددها الأخير الصادر نهاية الأسبوع الجاري، خارطة طريق سياسية غير رسمية.
وباستثناء الأحزاب السياسية الموالية في السابق لنظام بوتفليقة، كالتجمع الوطني الديمقراطي، الحركة الشعبية، وتجمع أمل الجزائر، وحتى جبهة التحرير الوطني، التي أبدت دعمها لدعوة عبدالقادر بن صالح في خطابه الأخير، لم تلق الدعوة صدى إيجابيا في ظل الرفض الشامل لأي حوار سياسي مع بقايا النظام السابق.
ورغم أن الرجل القوي في المؤسسة العسكرية قايد صالح، يتعرض لانتقادات الشارع، وبدأ يفقد الثقة التي وضعت فيه خلال الأسابيع الأولى لبداية الحراك الشعبي، وكان على رأس المطلوبين للرحيل من طرف احتجاجات الجمعة السادسة عشرة، إلا أن الافتتاحية أصرت على إعادة التذكير بعرض الحوار مع “تنازلات متبادلة”، الذي كان قدمه قائد أركان الجيش قبل عشرة أيام باعتباره “المخرج الوحيد للأزمة”.
ودعت المجلة إلى “الإسراع في تشكيل الهيئة المستقلة لتنظيم الانتخابات بالموازاة مع انتهاج أسلوب الحوار البناء من أجل الخروج من الأزمة التي تمر بها البلاد”، وهاجَمت أطرافا لم تسمها، اتهمتها بـ”الانزعاج من اكتساب الجيش لمقومات العصرنة ومكامن القوة الرادعة، كونها لم تكن تتوقع تمكن الجيش الجزائري من بلوغ هذا المستوى في ظرف زمني وجيز”.
وأضافت أن “مصلحة الوطن تقتضي في مثل هذه الأزمة المعقدة (..) انتهاج أسلوب الحوار الجاد والمثمر والبناء للإسراع في إيجاد الحلول الملائمة التي تجنّب بلادنا الدخول في متاهات من شأنها أن تزيد الوضع تعقيدا وتقطع الطريق نهائيا أمام مرحلة انتقالية لا يمكن إلا أن تفرز وضعا يصعب التحكم فيه”.
وتؤكد رسائل المجلة للشارع الجزائري أن المؤسسة العسكرية باتت الحاكم الفعلي في البلاد منذ تنحي الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وأن خارطة الطريق المعلنة من طرف الرئيس المؤقت هي ترجمة لإرادة الجيش المعبر عنها في آخر كلمة لقائد أركانه الجنرال أحمد قايد صالح، حين دعا إلى فتح حوار وطني والذهاب إلى حلول لا تخرج عن مقتضيات الوثيقة الدستورية.
خارطة الطريق المعلنة من طرف الرئيس المؤقت هي ترجمة لإرادة الجيش المصر على الذهاب إلى حلول لا تخرج عن مقتضيات الوثيقة الدستورية
ورغم خطاب النأي بالنفس عن الضلوع في التجاذبات السياسية، والأوضاع التي أفرزها الحراك الشعبي، وإقرار قايد صالح، بعدم وجود أي طموح للعسكر في قيادة البلاد سياسيا، إلا أن بصمة العسكر في إدارة الأزمة باتت واضحة في المرافعة لصالح مقاربة الشرعية الدستورية والتحذير من مطبّة الفراغ المؤسساتي والمرحلة الانتقالية، والإجماع السائد على ضرورة وضع أسس مرحلة جديدة بعيدا عن الآليات الموروثة عن نظام بوتفليقة.
وفي ظل التنافر بين إرادتي الشارع والسلطة، تستمر هرولة البلاد نحو المجهول، خاصة في ظل المعطيات الاقتصادية والاجتماعية التي تنذر بتصاعد الأزمة الداخلية مع تراجع المقدرات المالية وركود النشاط الاقتصادي والتجاري خلال الأشهر الأخيرة بسبب عدم الاستقرار الذي دخل شهره الرابع.
ولا يزال “حوار الطرشان” هو السمة الغالبة على المواقف بين الطرفين ما يرشح الوضع إلى المزيد من التعقيد، خاصة في ظل تصاعد الأصوات الداعية إلى نقل المظاهرات السلمية ومسلسل الاحتجاجات إلى عصيان مدني شامل والدخول في إضرابات عامة والامتناع عن دفع فواتير شركات الكهرباء والغاز والإيجار والضرائب، من أجل الضغط أكثر على السلطة الحاكمة.
ونقل مصدر مطلع أن الحكومة ماضية في تنفيذ أجندة الشرعية الدستورية، حيث شرعت في إعداد النصوص التشريعية التي تنقل عملية تنظيم الانتخابات من وزارة الداخلية إلى هيئة مستقلة، في إطار توجيهات رئاسة الدولة لإطلاق الهيئة المذكورة، ولمحاولة التماهي مع أحد المطالب المرفوعة من طرف الحراك الشعبي والطبقة السياسية.
ولم يستبعد المصدر أن تتم الدعوة خلال الأسابيع القليلة القادمة إلى فتح حوار سياسي في شكل ندوة وطنية، بدعم من الأحزاب والجمعيات والنقابات الموالية للسلطة، تمهيدا لتنظيم انتخابات رئاسية مقبلة، الأمر الذي يكرس الهوة العميقة بين السلطة القائمة الباحثة عن تجديد النظام، وبين الشارع المتمسك برحيل الجميع وتحقيق تغيير سياسي حقيقي وشامل في البلاد.
وألمح خطاب بن صالح، إلى أنه سيبقى في منصبه إلى غاية تنظيم الانتخابات الرئاسية، وهو ما وصفه ناشطون وسياسيون معارضون بـ“المستفز” لإرادة الشعب التي تصر على رحيل جميع رموز السلطة السابقة. وذهب هؤلاء إلى أن الرجل سيكون الواجهة المدنية للنظام العسكري بقيادة الجنرال قايد صالح، رغم ما تنطوي عليه العملية من مخاطر على الاستقرار الداخلي والسيادة الخارجية.
وصرّح الأكاديمي والناشط السياسي فضيل بومالة للصحافيين في مسيرة الجمعة الأخيرة، بأن “بن صالح مريض، في نظام مريض يريد أن تبقى الجزائر مريضة”، في إشارة إلى الوضع الصحي المفاجئ الذي ظهر به الرجل في خطابه الأخير، مما يؤكد توظيف شرعيته الدستورية من طرف القوة الفاعلة لترتيب بقائها في السلطة.