للعنوسة فوائد أخرى
أحاديث عابرة ولقاءات عجولة تصنعها الصدفة، لا نسعى للجلوس معا ولا التسامر، أو المناقشات المتعمقة، على عجل ترى كلّ منا الأخرى لبضع دقائق لا أكثر، أطول حديث بيننا لم يستغرق خمس دقائق معدودة.
لكنه كان يوما فارقا عندما اخترق صوت صراخ جارتي الحسناء ونقاشاتها مع والدتها بشأن عزوفها عن الزواج جدار الصمت في نهار رمضان الهادئ، هي تدافع عن وجهة نظرها بضراوة وتتشبث بما أطلقت عليه حريتها الشخصية في ألا تتزوج، ولا تسمح برجل أيا كان أن يعرقل نجاحاتها، أو يقضم من عمرها ساعات تقضيها في خدمته.
تتأفف من العبث في المطبخ لعدة ساعات لتتبيل الدواجن وتذوق الطعام والكشف عن مستوى نضج اللحم، ترى أن نجاحات أخرى ترغب في تحقيقها بعيدا عن مؤسسة الزواج.
بيد أن لوالدتها رأيا مغايرا، فهي لا ترى نجاحا يوازي لحظة ارتداء ابنتها الفستان الأبيض والتعلق بذراع رجل يحمل عنها أعباء الحياة، حسب وجهة نظرها، رجل ظله أعتى من حوائط العالم الهشة، تتكئ عليه.
وما بين الرأيين مساحة شاسعة من الأحلام والأمنيات الهائمات على حدود تفكير كلّ منهما. الأم ترى الزوج بمثابة الحصن والسند لا فكاك من الاقتران به، هي من جيل لا يرى في المرأة غير أنها “عورة”، والزواج سترها الوحيد.
وللابنة رؤية لا تتفق مع هذا الجيل البتة، ترى التحقق وإثبات الذات ليسا بالضرورة أن يحملا بصمة المذكر السالم، وإنما على تاء التأنيث السعي لهما وحدها.
أعلم أن كثيرين يتفقون مع وجهة نظر الأم، لكن الأغلبية العظمى تعضد الابنة، ليس من الطبيعي أن ترى امرأة أو فتاة لا ترغب في الزواج وربما هي حالات نادرة لكنها إذا حدثت فلا ضير، هناك صنف من النساء لا يرغبن بالزواج ولا يسعين إليه.
هن يردن النجاح بشكل مختلف وفي مجالات أخرى بعيدة كل البعد عن الحياة رفقة رجال قد يرهقوهن ماديا ومعنويا، رجال من الممكن جدا أن يستنزفوا طاقاتهن بسهولة، يتحولن بعد ذلك إلى زوجات وأمهات، وربما خادمات بلا أجر.
هناك نتوءات في الروح لا يمكننا إصلاحها، كما نعجز عن العبث فيها ومعها. ربما عانت جارتي من قصة حب قديمة تركت بقايا نزقة تحطم الفؤاد، قصة خلفت وراءها جرحا لا يداويه أحد، وربما لا ترغب من الأساس في خوض تجارب عقيمة سمعت عن قسوتها الكثير من صديقاتها.
ليس من الطبيعي أن ترى امرأة أو فتاة لا ترغب في الزواج وربما هي حالات نادرة لكنها إذا حدثت فلا ضير، هناك صنف من النساء لا يرغبن بالزواج ولا يسعين إليه
هذا العمر الذي استراح على وجهها وتمدد على ملامحها لا يعنيها في شيء ذلك أنها لم تكن تجلس على أريكة مريحة تطقطق أصابعها وتتسلى بالمقرمشات أو تضيع الوقت في مشاهدة دراما سخيفة.
في جلسة فضفضة قالت بصوت يحمل ما لا طاقة لبشر به من أوجاع، أعلم أنهم وصفوني بالعانس، وخلعوا عليّ ما لا يليق من أوصاف سمجة ومقيتة، لكنني دون أن أدري كنت أجمع الحجارة التي يلقونها فوق رأسي لأبني بها مجدا مختلفا، صنعت اسمي في مجالي بقوة وصبر، لماذا يتهامسون عليّ خفية؟
هذا صندوقي الأسود، لا أريد لأحد أن يقتحمه، قد لا أملك ارتعاشة رغبة أمنحها لرجل يتخلص من شهوة شبقية، لا تسكنني رغبات النساء، لا أميل لأحاديثهن اللزجة عن الرجال، حتى الأمومة ليست أحد طموحاتي.
كانت تنجح وتتحقق، تولت مسؤولية قيادة فرع البنك الاستثماري الذي تعمل فيه رغم سنها الصغيرة، أثقلت خبرتها بالعديد من الدورات التدريبية والعلوم والمعارف، بينما غيرها تشكو من الملل والفراغ، هي تنجز الكثير في اليوم، تتقدم بسرعة فائقة كقطار ترك محطته مسرعا للوصول قبل الموعد المحدد تلقت العديد من الدراسات في الائتمان والاقتصاد.
“هيغيلية” جارتي الحسناء جعلت منها امرأة أكثر قوة وتسيدت على مصيرها، لم تترك العنان للمحتمل والجائز يمتطي عمرها ويشد اللجام، وضعت لنفسها خطة نهوض تحققت بامتياز، لم تساعد مجتمعها الصغير على ظلمه لها بوصفها عانسا، ومنحها ذلك اللقب المجاني المعد سلفا لكثيرات في وطننا العربي، ولم تشاركه ظلمه بصمتها المتواطئ، لكنها قدمت نموذجا رائعا.
ليتنا نكف الفكاك عن الفتك بنساء أردن العيش خارج دائرة “المفروض”، فليس المفروض مفروضا دائما على الجميع، وكما يعلم الجميع لا يوجد صواب مطلق، ولا خطأ مطلق، ولكن لكل منا أسلوبه في الحياة. تذكر بعض كتب فقهية أن من لا تتزوج في الدنيا تسمى جمعاء، تعد في منزلة الشهداء، وتتزوج في الجنة برجل أعظم مما كانت تتوقع، إذا عافاها الرجال.