بوصوف يستحضر مسار شخصيات مغربية تاريخية .. فاطمة الفهرية

تــاريخ المغرب حافــل بشخصيات استحقت عــن جـدارة لقب العالمية، أثــرت وساهمت في أحداث غيرت مجرى التاريخ في أكثر من ميدان، وهــذا قــول ليست فيه رائحة مجاملة أو نــزعة عاطفية نحو أبنــاء جلدتي ووطني، بل هــو الـتاريخ يتحــدث بأكثر من لغــة أجنبيـة عن شخصيات وقامات مغربيــة من طينــة عالمية، وهــو التاريخ أيضا يتحدث بلغــة الأرقام والسبق نحــو هــذا الإنجاز أو ذاك، سواء تعلق الأمر بإنجاز فكري أو علمي أو جغرافي استكشافي أو إنساني أو غيـره…

لكــن تــاريخ المغرب نفسه لا يستقيم ولا يكتمل بــدون قراءته بصيغة المؤنث، وبدون الإشادة بأعمال خالــدة لــصاحبات نــون الـنسوة، وهُـنا أيضا لا تكتمــل قــراءة الصورة بدون التوقـف كثيرا عند محطة السيدة فاطمة الفهرية، التي ولــدت بالقيروان سنة 800 ميلادية، وأصبح كل من مسجد وجامعة ومكتبة القرويين بفاس لازمات ومرادفــات لصيقة بالسيـدة الجليلــة، التي شيـدت هذه المعالم من مالها الخاص سنة 859 ميلادية، أي في القرن التاسع الميلادي، وهُـنـا أيضا يجب التــوقف والتــأمـل مليـا في أحـوال المجتمعات في القرن التاسع الميلادي وحالـة المجتمعات الأوروبية في عهد العصور الوسطى.

فـأن تُـبادر سيدة عربية مسلمة ببنــاء مسجد يُــذكر فيه اسم الله، إلى جانب جامعة للعلوم الشرعية والطب والفلسفة والنحو وغيره ومكتبة بها نفائس المخطوطات، فهذا يعني أن السيدة فاطمة الفهرية كانت تحمل علمـا كبيرا ومشروعا مجتمعيا ومنهاجا تربويا فريدا في القرن التاسع الميلادي.

وأن تُـبادر سيدة عربية مسلمة إلى التـفكير في خلق فضاءات للـعلم والمعرفة مفتوحة أمام جميع الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية ولجميع معتنقي الديانات غير الإسلام في مدينة فاس، عاصمة المغرب، وفي سنة 859، فهذا يعني أيضا أن السيدة الفاضلة فاطمة الفهرية شخصية متنورة ومُلهمة ومنفتحة على فضائها المجتمعي ومجتمعات أخرى، وأنها حالــة تستحق أكثر من دراسة وبحث وأكثر من تحليل على مستوى تكوين شخصيتها أولا، ثم على مستوى إنجازاتها ثانيـا.

وأن تــأتي السيدة فاطمة الفهرية ضمن الشخصيات الأكثر تأثيرا أو التي غيرت مجرى التاريخ، في أكثر من كتاب وتقرير ولـــوائح ضمت أسماء عالمية، فهــذا بعيد عن كل صدفة تاريخية أو محاباة مجانية، ويكفي أن نــقول إن بنــاء جامعة القرويين كان قبل جامعة سـاليــرن سـنة 1050، وجامعة بولونيا للحقوق بإيطاليا سنة 1088، وقبل جامعة اوكسفورد ببريطانيا سنة 1096، وقبل جامعة باريس وجامعة سالامنكا بإسبانيا سنة 1243، وقبــل جامعة هارفارد الأمريكية سنـة 1636.

مجانية التدريس ومراحل التكوين وجودة المناهج وخلق لأول مرة “الكرسي العلمي المتخصص” للتدريس… تجعل من السيدة فاطمة الفهرية شخصا غير عاد من جهة، وتجعل من جامعة القرويين قبلــة للفلاسفة والعلماء والمفكرين الذين يتشـرفون بالانتماء إلى رحابها دارسين ومُـدرسين، وينهلــون من علم أسـاتذتها ومن كتب ومخطوطات مكتبتها، وهـذا ليس باصطفاف عاطفي تحت عنوان الانتماء الوطني، بل يكفي أن نسرد بعض القامات العلمية ذائعة الصيت التي جاورت رحاب القرويين جامعــا وجامعة ومكتبــة، ومنهم على الخصوص من الأندلس الحسن الوزان أو ليون الإفريقي، والجغرافي الشريف الادريسي، والطبيب اليهودي بن ميمون، والفيلسوف بن رشد، وكذا رائد علم الاجتماع بن خلدون، والمتصوفة كابن حزم، وغيرهم كثير، كابن باجة في مجال الطب، والنحوي بن اجروم ،وعيسى بن عبد العزيز الجزولي المراكشي… دون نسيـان سيلفستـر الثاني، بابا الفاتيكان (999/1003)، فهو أيضا درس بالقرويين ويُنسب إليه نقل الأرقام العربية إلى أوروبا.

إن صبيب جامعة القرويين من العلم والمعرفة لم ينضب منذ بنــائها من طرف الفاضلة فاطمة الفهرية سنة 859 إلى اليــوم، وقـد تعاقبت على الاهتمام بها كل الــدول المغربية المستقلة منذ الأشراف الأدارسة إلى الأشراف العلويين، وهــو الأمر الذي جعلها حاضرة وفاعلــة مؤثــرة في جميع الأحداث العلمية والاجتماعية والسياسية أيضا، وجعل من فاس عاصمة العلم والمعرفة وخــزان المغرب من العلماء والفقهاء والتراجمة والسفراء ورجال بلاط السلاطين، وغيرهم من أفـراد النخبة المغربية.

فمدينة فاس كعاصمة لأكثر من دولة مغربية أعطى لـفقهاء ولعلماء القرويين مرتبة خاصة تتعلق بموضوع “البيعــة” عُــرفت “ببيعة علماء فاس”، كما أنهم كانوا يُـرافقون السلاطين المغاربة في كل تحركاتهم، سواء من أجل الجهاد أو توحيد المملكة الشريفة، وكانوا يفتون في كل مجالات الحياة، كيف لا وهم أهل الحل والعقد بالمغرب.

وقــد ساهمت جامعة القرويين من خلال فقهائها وعلماءها في إغناء النقاش الفكري والعلمي، وكذا في أعمال البلاغة والنحو والفلسفة وعلــوم الفلك والطب، وأيضا الشريعة الإسلامية والفقه، وخاصة المذهب المالكي السني، وفي تنشيط حركة علمية بالمغرب ضمنت لــه التفرد عن مدارس الشرق وعــن تأثيــر الأزهــر الشريف بمصر، الــذي بُـني بعــد بنــاء القرويين بمائة سنة، أي في سنة 975 ميلادية. ولنا في “العمل الفاسي” في النوازل والفتاوى خير دليل على رغبة الفقهاء والعلماء المغاربة في ترسيخ الخصوصية المغربية.

في أكثر من محطة تاريخية فــاصلة وجد علماء جامعة القرويين أنفسهم في الخط الأمامي للصراع السياسي، سواء بمناسبة “قضية العرائش” أو “البيعة المشروطة” أو “الظهير البربري” للتمييز بين المغاربة العرب والأمازيغ، كما ساهمت الجامعة في تكويــن رجال الحركة الوطنية، لــيس فقط المغاربة، بل لعبت دورا حاسما في تعليم وتكوين النخب الوطنية الجزائرية، ومنهم الطلبة الجزائريون، واسهامهم في الحركة الوطنية الجزائرية بين سنتي 1930 و1962، وهــو ما جعــل المقيم العــام الفرنسي ليــوطي يصف جامعة القرويين “بالبيت المظلم” الذي يجب غلقـه.

من جهة ثانية، فإن مكتبــة أو خزانــة القرويين تعتبــر أيضا أقــدم مكتبــة بالعالم، حيث تتوفر على نسخة من القرآن الكريم تعود إلى القرن التاسع الميلادي مكتوبة بخط كوفي على رقعة جلد الجمال، بالإضافة إلى آلاف المخطوطات والنفائس الفكرية من كل الأجناس العلمية، وإنـجيل كُـتب باللغة العربية يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، مما يجعل من المكتبة أقــدم محراب فكري وعملي.

ورغـم كل ما قيل عن جامع وجامعة ومكتبة القرويين، وعــن أدوار هـذه الفضاءات الروحية والعلمية والسياسية والاجتماعية في تغيير محطات تاريخية ووطنية مهمة، ومساهمتها في تكوين وصقل شخصيات عالمية أثـرت في مجرى الأحداث… وهي أدوار ثابتــة بتوثيق المؤرخين والفلاسفة وبلغة الأرقــام، فإننــا، وفي غمرة الحديث عن هــذه الفضاءات والإنجازات، نـنسى الحديث عن صانعة كل هذا المجد وكل هــذا التاريخ، الحاضنة لــكل هـــؤلاء الطلبة والطالبــات منذ سنــة 859، فهي أمهم جميعا، أليس لهذا تلقب بــأم البنيــن؟

نضيع في ســرد تفاصيل جمالية وأصالـة معمار جامعة الــقرويين وتــرميم المكتبة والمسجد، ونسهــو–بدون قصد-عن إعطاء السيدة الفاضلة فاطمة الفهرية المساحات التي تستحق من عميق احترام وعظيم الامتنان والتكريــم لـسيدة عربية مسلمة فكــرت في بناء جامع وجامعة في عصر وصفت فيه المجتمعات الأوروبيـة بالعصور الوسطى أو المظلمة، وهــو شيء يــدعــو إلى الافتخار بكل صاحبات نــون الـنسوة في وطني.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: