الجيش الجزائري: منقذ أم شريك في الأزمة
هل الجيش الجزائري هو من يقود الدولة اليوم -بعد الأزمة السياسية الراهنة- إلى برِّ الأمان سلما وأمنا وخيارا ديمقراطيا، أم إنه شريك فاعل في تراكم الرداءة والفساد، محاولا إنقاذ ما تبقّى له من سلطة تهاوت أمام حراك سلمي شارك في صنعه مع المؤسسة الأمنية؟
هذا السؤال الجوهري، لا يمكن تقديم إجابة له إلا من خلال تفكيكه ضمن مسوّغات البحث الجاد عن حل للأزمة الراهنة، فهناك الدولة بكل مُكوّناتها، ومنها المؤسسة العسكرية، الحاكم الفعلي الآن في ظل غياب كلي لمؤسسة الرئاسة، والمؤسسات الدستورية العاجزة والمرفوضة شعبيا، والأحزاب المصنوعة في وقت مضى على عين النظام والداخلة اليوم في مرحلة التّيه، والمقطعة بين حراك يرفضها، تسعى من خلاله إلى الحفاظ على ما تبقى لها من وجود وهمي وهلامي، وبين مستقبل سيُنهي دورها، بما فيها الأحزاب الكبرى والتاريخية.
إضافة إلى هذا كله، هناك شعب تتقاذفه أمواج التغيير من كل ناحية، وقد غيَّبُه عن الوعي التفاعلُ بين مكوناته، حيث طغيان الأنا الجمعي لجهة التعويل والانتظار لحلول وهمية هي فوق مقدرات الدولة، تضاف إلى ذلك مؤسسة القضاء، التي تعيش اليوم أزهى عصورها لكونها تقوم بمحاكمة الفاسدين، ممن كانوا بالأمس القريب فوق أحكامها.
تلك هي القراءة الأولية لمشاهد الجزائر في الوقت الراهن، التي يصنعها الشعب بإيعاز وتوجيه من عدة قوى، لكل منها شأنه الخاص. فمنها ما هو عرقي يتعلق بالتركيبة السكانية المحتمية بوحدة لا يمكن الجهر بنواياها خوفا من الرفض العام، ومنها ما هو ثقافي في صراع -علني أحيانا- بين الانتماء العربي وبين التبعية للثقافة الفرانكفونية. ومنها ما هو ديني حيث التربص من جماعات تيار الإسلام السياسي. وجميع تلك القوى تعرف أن الجيش يراقب نشاطها عن كثب، لذلك تختفي وراء المطالب الشعبية وتعمل من أجل إطالة عمر الأزمة، لأنها تراهن على طول الأمد الذي سيرهق الجيش وينتهي به -على حد زعمهاـ إلى صدام مع الشعب.
تلك القوى، تقوم بأمرين خطيرين، الأول أنها ترهن الواضع الجزائري الحالي في دائرة الشك، وتتحايل من أجل العيش في كنف حمايته للدولة وللمجتمع من الانهيار، ثم إنها لا تملك أن تواجه الجيش بشكل مباشر، خوفا منه الآن وطمعا في دعمه في المستقبل، خاصة وأنها تُتابع حسمه للقضايا المصيرية، ثم إن حالة من يشكك في وطنية أو شرعية ما يقوم به قد يكون مصيره مثل رئيسة حزب العمال لويزة حنون. والأمر الثاني أنها تراهن على طول الأزمة، وبالتي فشل الجيش في قيادة البلاد، فتحل الفوضى وتصل إلى الحكم قوى خارج نطاق الممارسة الديمقراطية، قد تكون مدعومة خارجيا.
الواقع أن الجيش الوطني الشعبي، لا يريد أن يُجر إلى قيادة الدولة سياسيا، فهو حاميها وليس حاكمها، لذلك دعم شرعية الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة حين اختير من طرف الشعب خلال الفترات الرئاسية السابقة، ومع أن الفريق قايد صالح، تحديدا، يراه البعض من جماعات الفساد التي كانت تدعم بوتفليقة، إلا أن الأمر لا يقبل على النحو السابق، إذا نظرنا إليه من زاوية دور الجيش في حماية مؤسسة الرئاسة، فما كان له التمرد أو الانقلاب على رئيس شرعي منتخب وإلا اعتبر خارجا عن القانون، وهو ما سيسمح بالتدخل الخارجي، ثم إن تجربته القريبة في سنوات الإرهاب، كشفت عن توريطه من طرف القوى السياسية في حرب أهلية ثم التخلي عنه، بل واتهامه بجرائم القتل في الجزائر، في مساواة غير عادلة بينه وبين الجماعات الإرهابية.
من ناحية أخرى يدرك الجيش الجزائري الحملة التي يشنها البعض من القوى ضد قائده الفريق أحمد قايد صالح في محاولة لإحداث شرخ بينه وبين الشعب، مع أنه وعلى خلاف مطالب قادة الأحزاب السياسية، وحتى بعض القادة العسكريين، ناهيك عن الحراك في الشارع القائم على فكرة رفض السير على النهج الدستوري، يصر على حل الأزمة من خلال الدستور والقانون، وتفادي اللجوء إلى حالة الطوارئ، كما وقع خلال سنوات العشرية السوداء.
وبعيدا عن مسألة تأطير الاحتجاجات والمظاهرات وخروج الملايين إلى الشارع أسبوعيا خلال الأشهر الثلاثة الماضية، فإن الجزائر تصنع تاريخها السياسي بدعم من الجيش، حيث الأمان التام، الذي لا شك أنه استفاد من دروس الماضي، لكن الأهم أن لغو السياسيين وحماس الناس في الشوارع لم يستطيعا التأثير على الجيش، دون أن يكون ذلك خارج الممارسة الديمقراطية، غير أن اعتقاد البعض أن تدفق الشعب إلى الشارع وتحقيقه مطلب رحيل بوتفليقة، سيجعل الجيش يستجدي السياسيين أو يستعين بهم، كشف عن غيّه، حيث رأى فيهم الجيش مضلّين، ولذلك لم يتّخذهم عضدا لصناعة القرار وإن كان قد دعاهم إلى حوار وطني شامل.
ما كان لأحد في الجزائر، يعتقد أن الفريق أحمد قايد صالح، سيتصرف بعقلية رجل الدولة المدني، وهو الذي قضى عمره كله في الجيش، وكان من اليسير له في هذه الظروف أن يستولي على السلطة من خلال انقلاب -مؤيد شعبيا- على بوتفليقة، ويدخل البلاد في مرحلة انتقالية كتلك التي يطالب بها السياسيون عموما وقوى المعارضة الشرعية وغير الشرعية، لكنه لم بفعل.
صحيح أنه حسب ما تشير بعض المصادر وافق مكرها على إنشاء مجلس تأسيسي كان سيرأسه الرئيس الأسبق الجنرال اليامين زروال، لكنه في الأخير انتصر لرؤيته المؤسسة على أن الجيش يحمي الدستور حتى لو كانت القوى السياسية وقطاع عريض من الشعب يطالبان بإلغائه، فالدولة لا يجب أن تعيش فراغا دستوريا، كذاك الذي عاشته الجزائر في نهاية 1991، وكانت تكلفته حربا دامت عشر سنوات.
وإذا كان البعض يعيب عليه حركته المتواصلة داخل ثكنات الجيش، وإعلانه لكل قراراته من القواعد العسكرية، انطلاقا من فكرة أن ذلك يمثل استعراضا للقوة، فإن العبرة بما يأتي في كلماته من طرح يتعلق بالبحث عن السبل الكفيلة للخروج من الأزمة، على النحو الذي ظهر في زيارته الأخيرة إلى الناحية العسكرية السادسة بتمنراست، حيث دعا إلى حوار شامل ضمن الشرعية الدستورية مؤكدا على أنه “لا مبرر لاستنزاف الوقت وتضييعه لإيجاد حل للأزمة”، كما فتح النار على أشخاص وأطراف دون تسميتهم قائلا “أشخاص يعملون بمنطق العصابة يسعون لتعطيل المساعي الخيرة”.
لا نعرف بالتحديد من الذين يقصدهم الفريق قايد صالح، لكن الذي بات واضحا اليوم أن الجيش الجزائري هو الحامي للدولة من الانهيار، ومن استيلاء قوى بعينها عل السلطة من خلال تحالفات مبنية على المصالح المادية أو المواقف السياسية والدينية، وهو بالتأكيد سيحول دون وصول أي قوى متطرفة إلى الحكم، بما في ذلك قوى الإسلام السياسي، ولن يقبل بدخول البلاد مرحلة انتقالية، لأنه لم يعد كما يبدو يؤمن بدور القوى السياسية التقليدية، ما يشي بأن رئيس الجزائر في المستقبل قد لا يكون من الأحزاب الكلاسيكية، ولا من الذين تجاوز عمرهم العقد الخامس.