مؤسسة تجمع مسلمي بلجيكا ..فرص التعايش بين الأديان والثقافات
رغم وجود اتفاق شبه تام على أن التسامح يعد من أكثر المفاهيم الفلسفية المتعددة الأبعاد، إلا أنه ظلّ وكغيره من المصطلحات المتجذّرة في تاريخ الثقافات والحضارات مثيرا للعديد من التداعيات، بسبب تنوع واتساع دوائر مصطلح الصفح. وبمجّرد النبش في تاريخية هذا المفهوم تتراءى قراءات مختلفة بشأنه، لتنقسم الآراء بين من يصنف التسامح على ضوء منطلقات ومعايير قيمية بأنه ضعف ووهن وبين من يرى في المفهوم حكمة وتعقّلا هدفهما إزالة أورام الحقد والكراهية، ولهذا الغرض عكف صلاح الشلاوي على تأصيل مفهوم التسامح فكريا وتاريخيا في ترأسه للمجلس التنفيذي لمسلمي بلجيكا و التجمع
يتابع صلاح الشلاوي مفهوم التسامح الذي أثار تداعيات مختلفة على النطاق الفكري أو على صعيد الواقع العملي خصوصا في السنوات الأخيرة، حيث استهدف توضيح المفهوم ومعرفة منشأه ومسيرة تطوره ومدى تأثيره.
انطلق رئيس تجمع مسلمي بلجيكا من لمحة مفاهيمية تاريخية عن “التسامح” عارضا التجربة المغربية ببلجيكا الحاضنة لقيم التسامح والتعددية الثقافية حيث تضم أكثر من 200 جنسية ومساجد وكنائس ومعابد تتيح للناس ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ومحللا لآراء مفكرين مثل سقراط وجون لوك وجون ستيوارت مل وإيمانويل كانط وجون رولز.
كما توقف عند مفهوم التسامح في الأديان السماوية، خاتما برؤية الإسلام لهذا المفهوم بتأكيده أن متتبع بعض آيات القرآن سيرى أنها تعطي صورة مشرقة للتسامح المعتمد في الإسلام.
نظريا ـ حسب صلاح الشلاوي ـ يمكن فهم التسامح على أنه ممارسة سياسية تهدف إلى الحياد أو الموضوعية أو الإنصاف من جانب الأطراف السياسية وتترابط هذه الأفكار لأن الهدف من الحياد السياسي هو الضبط المتعمد للقوة التي تمتلكها السلطات السياسية لرفض الأنشطة الحياتية للمواطنين والأفراد تحت سلطتها.
تأصيل فكري لمفهوم فلسفي يستأصل سرطان الكراهية
ولفت إلى أن فضيلة التسامح مضمنة في منهج الفيلسوف اليوناني سقراط القائم على السماح بالتعبير عن العديد من وجهات النظر المتنوعة للمخالفين له، وفي القرن السابع عشر تم تطوير مفهوم التسامح في أوروبا مع سعي المفكرين الليبراليين للحد من الإجراءات القسرية التي تفرضها الحكومة والكنيسة على الأفراد والطوائف، واعتبروا أن البشر معرضون للخطأ وينبغي أن يتمتعوا بالتواضع المعرفي. إضافة إلى ذلك يدرك الفرد مصلحته أفضل من أي شخص آخر وهو يتطلب التسامح مع الآخرين من أجل العثور على أفضل طريقة للعيش.
علينا نحن البشر أن نتحلى بروح التسامح الذي هو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجني عليه تجاه الجاني، وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي.
وأشار الشلاوي في تجربته إلى أن تاريخ التسامح يرجع في موطنه الأوروبي إلى أكثر من ثلاثة قرون، لكنه لم يتخذ صيغته النهائية إلا في أفق فلسفة التنوير التي صاغها مفكرون أمثال جون لوك وفولتير وكانط وجان جاك روسو وغيرهم.
وظل المفهوم من حيث نشأته بوصفه مفهوما مقترنا بمحاولة تقريب المسافة بين المذاهب الدينية المتصارعة التي ترتبت على تصارعها حروب دينية مدمرة وأشكال اضطهاد ظلت تعانيها أوروبا لوقت طويل، وراح ضحيتها أكثر من 25 مليونا من البشر، ولذلك بقي مفهوم التسامح دائرا في الدائرة الدينية بالدرجة الأولى مقترنا بالنزعة العقلانية التي سعت إلى وضع الأفكار القديمة موضع المساءلة.
ورأى أنه عندما انتقل المفهوم إلى الثقافة العربية مع أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ظل دائرا في الأفق نفسه، وظلت الصراعات الطائفية التي أدت إلى حروب أهلية، هي الأصل في نقل المفهوم والدافع التكويني إلى صياغته أو إعادة إنتاجه عربيا.
ولم تستخدم الثقافة العربية كلمة التسامح في هذه السنوات مقابل كلمة التعصب وإنما استخدمت كلمة قبول الاختلاف والصفح مقابلا لمفردتي Toleration وTolerance اللتين لا فارق كبيرا بينهما وتدلان في سياقهما الثقافي الذي ينقل عنه على الكيفية التي تعامل بها المرء مع كل ما لا يوافق عليه، فلا يعاديه لمجرد اختلافه وإنما يتقبله بوصفه لازمة من لوازم الحرية التي يقوم بها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة.
وقال الشلاوي إن العديد من مفكري التنوير العربي فهموا الكثير من الأبعاد الإيجابية للمفهوم، فأكدوا ضرورة الدولة المدنية بوصفها الفضاء الذي يعيش فيه التسامح ويتزايد، بل يجد من يصونه ويرعاه ويحميه داخل منظومة حقوق الإنسان المعترف بها في الدولة المدنية.
وترتبط بهذا التأكيد فكرتان متلازمتان في تفكيرهم: أولهما أنه لا وجود للتسامح إلا بتقبل مبدأ الحرية وممارسته في كل معانيها. ثانيهما الإيمان اللامحدود بقدرة العقل على الوصول إلى المعرفة بذاته وقدرته النهائية على تطورها إلى مدى لا يحده حد.
هكذا تباعد مفهوم التسامح عن الدائرة الدلالية التي تقترن بالتراتب وتمركز في الدائرة الدلالية بمركز المساواة والتكافؤ، وأصبح التسامح قرين التقبل الإيجابي للاختلاف، والإيمان بالحضور الطبيعي للمغايرة على مستوى الفرد والجماعة والمجتمعات على السواء. ويعني ذلك مجادلة الآخر بالحسنى في مدى الاختلاف الفردي دون تخل عن الإيمان بالمساواة والتكافؤ، وأنه ما من طرف على خطأ مطلق أو على حق مطلق، كما يعني محاورة أفراد الجماعة بعضهم بعضا دون تعال من فئة أو تمييز ضد أخرى على أي أساس أو من أي منطق. ويعني أخيرا الحوار الخلاق بين الثقافات والحضارات من
المنظور الإنساني القائم على ثراء التنوع البشري المقترن بالتعددية والمغايرة والاختلاف.
وسلط رئيس تجمع بلجيكا الضوء على التسامح الديني، مؤكدا أن أهميته تتمثل في كونه ذا بعد وجودي، أي ضروري ضرورة الوجود نفسه، لأن “قيمة التسامح الديني تتمثل في كونه يقر الاختلاف ويقبل التنوع ويعترف بالتغاير بين الأفراد ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية امتزج فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله”.
وحدد الشلاوي أنواع التسامح كالتالي: التسامح الديني: التعايش بين الأديان وحرية ممارسة الشعائر الدينية مع التخلي عن التعصب الديني. التسامح الفكري والثقافي: عدم التعصب للأفكار واحترام أدب الحوار والتخاطب. التسامح السياسي: يقتضي نهج الديمقراطية وضمان الحريات السياسية الفردية منها والجماعية. التسامح العرقي: تقبل الآخر رغم اختلاف لونه أو عرقه ونبذ التمييز العنصري.
وأوضح أن التسامح لا يعني مطلقا التغاضي عن الأخطاء بل على العكس تماما معرفة تلك الأخطاء ومحاولة تجاوزها بطريقة عقلانية منطقية. نعترف بالخطأ والعمل على عدم تكراره مرة أخرى لا أن نقول إننا نتسامح بمعنى أن نترك الأمور على ما وصلت إليه لأن ذلك يعمل على كبت تلك المشاعر المتعلقة بالحدث وتراكمها مما ينذر بانفجارها مرة أخرى، وهذا ما يحدث كثيرا بين الأصدقاء أو الأزواج حيث ينتهي الموضوع بأن نترك ما فات دون العمل على معرفة الخطأ أين يكمن وما هو الطريق لعدم تكراره؟ ومن ثم مسامحة الكل للآخر والعمل على صفحة جديدة خالية من المشاعر المكبوتة التي تتحول في النهاية إلى بركان غضب.
ولفت صلاح الشلاوي إلى أن البعض قد يظن أن التسامح غطاء للضعف والوهن والهزيمة، ولكن في الحقيقة فإن الصفح قد يكون ممتزجا بقدر عظيم من الحكمة والتعقل. وأكد أن “التسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس ويقدم لهم الدليل أيضا على أن العظماء من الأنبياء والمصلحين والمؤمنين ذاقوا المر من أجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب الذي يعمي العقول قبل العيون ويولد المشاعر السلبية تجاه أبناء البشرية عموما ثم ينتهي إلى نبذ الآخر ولو كان من نفس الدين، إن اختلف معه في المذهب، وعلينا نحن البشر أن نتحلى بروح التسامح الذي هو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجني عليه تجاه الجاني، وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي”.
وتساءل الشلاوي هل يتسع مفهوم التسامح لكل المعاني الضرورية لمعالجة قضايا تفرض نفسها تتجسد في: 1 ـ التطرف والغلو في الدين أو باسمه أو ضده ـ 2 ـ التطهير العرقي الذي يمارس في عدد من بلدان العالم ـ 3 ـ الفكر الأحادي الذي يريد فرض واقع اقتصادي فكري أيديولوجي على العالم كله ـ 4 ـ ما يسمى بصراع الحضارات وهي نظرية تستهدف تطويق أمم وشعوب بعينها؟