الجوقة تؤثث الحفلات المغربية بفنون المديح والاستماع

ينفتح ذوق المغاربة على موسيقات مختلفة شعبية ووترية غربية وشرقية، إلا أن الجوق المغربي لفنون المديح والاستماع يبقى حاضرا في كل المناسبات، ويزداد حضوره في المناسبات الرمضانية وما يتعلق بها من المناسبات الخاصة، ولا يقتصر الجوق على الرجال فحسب، فالسهرات النسائية كانت ولا تزال تفضل جوقا نسائيا يزيل عن المدعوات الإحراج والخجل في حالة الفرح والوجد.

لا تمر ليلة من ليالي رمضان في المغرب إلا وتحيي فيها فرقة من الأجواق الموسيقية الشعبية بالرباط حفلا دينيا للاحتفاء بالشهر الفضيل، أو تؤثث حفلة تكريم تقيمها عائلة لأحد أطفالها، قد أمضى يومه الأول صائما، أو لخطوبة أو عرس أو لليلة السابعة من ليالي العرس.

وللأجواق الموسيقية المغربية، وما تقدمه لمستمعيها في كل المناسبات تقاليد وأعراف لا يمكن تجاوزها في كل حفلة، ابتداء من الملابس التقليدية الزاهية، التي يرتديها أفراد الجوق والتي تتكون من الجلباب و”البلغة” في القدمين (الخف) والطربوش الأحمر. وبأيديهم الآلات الموسيقية التراثية، كـ”التعريجة المسفيوية” (طبل أسطواني وسطه ضيق) و”الوتار” وهي آلة وترية تشبه العود والرباب، والقرقب (آلة إيقاعية) وغيرها.

“أكثر من عشر حفلات تم إحياؤها منذ بداية شهر رمضان في قاعة حفلات نعمة، القريبة من القامرة (المحطة الطرقية في يعقوب المنصور بالرباط)” هكذا بدأ سي سعيد (30 سنة) حديثه لـ”العرب” وهو رئيس “سرباية” (مشرفو الخدمة في قاعة نعمة) ببدلته الأنيقة، وابتسامته التي لا تفارق شفتيه.

يوضح سعيد قائلا، “إن في الرباط ثماني قاعات كبيرة للحفلات تتسع كل منها لأكثر من 250 مدعوا، وأشهرها قصر القباج، دارعبلة بالقنيطرة، قصر الجوهرة بحسان، وديسكوتك بلوم على ضفاف نهر أبي رقراق بالرباط، وغيرها. وهي مخصّصة لإقامة الحفلات التي تحييها الأجواق الموسيقية، التي غدت صاحبة الدور الأهم في أي حفلة خطوبة أو عرس أو أي مناسبة عائلية أو عامة، لأن هذه المناسبات أضحى أصحابها لا يقدرون على تحمل أعباء خدمتها، كما كان يفعل الناس سابقا، عندما كانت الأعراس والحفلات العائلية الأخرى يتم إحياؤها في الساحة الضيقة أمام الدار أو فوق السطح اتقاءً للفضوليين. وكان أهل العريس والعروس، هم من يقومون بخدمة المدعوين”.

ويضيف، “الجوق الموسيقي يمتع الحاضرين بالموسيقى الشعبية طوال الليل، وخلال ذلك يقدم لهم النادل الطعام والشراب والحلوى حسب التقاليد المغربية المتوارثة. وكراء هذه القاعات لليلة واحدة تبلغ قيمته بين عشرين ألف درهم وثلاثين ألف درهم، وضيافة المدعو الواحد يكلف 500 درهم (الدولار يساوي 9.4 درهم )”.

أكثر من مجرد الاستماع
أكثر من مجرد الاستماع

وعدّد خالد الهلالي (كاتب مغربي)، الشروط التي يجب توفرها في رئيس الجوق وموقع جلوسه؛ إذْ عليه أن يحتل موقعا وسطا في الجوق، لتسهيل نقل إشاراته إلى أفراد فرقته، ويجب كذلك على أفراد الجوق اتخاذ شكل القوس في جلوسهم، لتصل الموسيقى بشكل متناسق للمستمعين.

واستطرد الهلالي، “وحيث يحسُّ كل عازف أنَّه يشارك في إبداع جماعي، فلا يصير الجوق مجرد تجاور لعدد من الموسيقيين، إذ يؤدّي كل واحد منهم عمله طبقا لمخطط نغمي مشترك، بل تصير المجموعة كيانا جماعيا واحدا ينفّذ عملا خلاّقا، كل ذلك من أجل إيصال الأفكار اللحنية إلى المستعمين وتقريب المضمون اللّحني من أذواقهم”.

وأضاف “المعلم أو رئيس الجوق، لا يكتفي بالنطق بالكلمة الأولى أو المقطع الأول في الغناء الجماعي، في مطلع الصنعة أو التوشيح أو البرولة بل يجب أن يكون في طليعة الفرقة في كل شيء، فكل حركة بصوته، هي إلحاح على تنميط الغناء، وحفظ توازنه، خصوصا إذا تواجد في الجوق بعض أصوات النشاز، التي لا تمتلك خامة صوتية تمكنها من الانسجام مع مختلف الطبقات الصوتية للغناء”.

ووضح عبدالله الشاهد (مطرب وموسيقي مغربي)،  “ارتبط تاريخ الموسيقى في جانب كبير منه بالبعد الطقوسي الشعائري، حيث كانت الترانيم الموسيقية لا تغادر فضاء المعابد، لما لها من أثر نفسي، وإيماني على جموع المؤمنين. وبالرغم من أن مجيء الإسلام قد هذب دور الموسيقى، إلا أن تاريخنا الإسلامي عموما والمغربي على وجه الخصوص خلق تجانسا بين النغم والعقيدة، ليغدو الغناء ذا طابع روحي خاص”.

واستطرد الشاهد، “تعكس جلسات المديح والسماع مدى تعلق المغاربة بعرى دينهم، إذْ ترعرع فن المديح والسماع خاصة في كنف الطرق الصوفية المختلفة، التي اتخذت منه منهاجا تواصليا وتربويا لمريديها. فهو يزخر بالذكر والمديح في حالة من الوجد والعشق الإلهيّة. ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر الطريقة الدرقاوية والعيساوية والبوتشيشية التي ومن خلال نخبة مادحيها أنتجت مخزونا موسيقيا امتد إلى أعماق أفريقيا وأوروبا وآسيا والمشرق العربي. وبذلك حافظ ليس على التراث الموسيقي فقط، بل على الفكر الصوفي والتاريخي أيضا”.

وأضاف الشاهد، “وتكثر حفلات السماع خلال شهر رمضان والمولد النبوي، ويتجاوز هذا المعطى المديح والاستماع إلى الطرب الأندلسي والغرناطي والملحون وفن كناوة، والوصلات في جل الأحيان تلهج بالصلاة على خير البرية، واستحضار قيم الدين والأخلاق الحميدة. مما جعل الموسيقى الروحية بالمغرب ضرورة ليست فنية ترفيهية فقط، بل تمتد لتشمل الجوانب التربوية والإيمانيّة كذلك، بل أكثر من ذلك تعدُّ دعامة أساسية للأمن الروحي بالمغرب من خلال توحيد مكونات المجتمع نحو إسلام وسطي متسامح، ومنفتح على الآخر”. وذكر رضا أغنينو (40 سنة) وهو ابن عبدالغالي أغنينو صاحب جوق “أنوار فاس”، “إن لرمضان طابعه الخاص، وما يقدم فيه من حفلات من الضروري أن تشمل المديح والاستماع، لما في هذا الشهر من قدسية وبركات ومحبة في قلوب المغاربة”.

فن المديح والسماع ترعرع في كنف الطرق الصوفية المختلفة، التي اتخذت منه منهاجا تواصليا وتربويا لمريديها

ووصف الصحافي المغربي عادل الزبيري المديح والاستماع بـ”الفن التراثي المغربي القديم، المعتمد على الشعر العربي الصوفي، الذي يُتغنى به على أنغام مختلفة عكس طرب الآلة، الذي يعتمد على الآلات الموسيقية، والأصوات الشجية.

وأغلب شعر المديح والاستماع الصوفي يتغنى ويسبح بحمد الخالق وجمال صنيعه، وبمدح الرسول الكريم، وينقل سامعه إلى أجواء روحية، فيها التأمل والاستغراق العميق لاستبطان أرق المشاعر في النفس الإنسانية”.  ومما يُذكر حول الأجواق الموسيقية في المغرب، أن المخرج محمد مفتكر الكاتب اختار قصة فيلمه “جوق العميان” الذي أنتج عام 2015، ممّا يحدث لجوق موسيقي، أغلب أعضائه من العميان، والقسم الآخر يتظاهر بالعمى، حين تكون الحفلة التي يراد إحياؤها لدى عائلة محافظة لا ترغب في أن يطلع على نسائها رجال.

وذكرت لالة سامية (35 سنة) ، أن بعض العائلات المغربية تتحفظ على استدعاء جوق موسيقى رجالي، وقبل أيام قليلة استدعدت جوقا من النساء أرشدتها إليه إحدى صديقاتها يسمى جوق فاطمة قرتالو، جميع أعضائه من النساء، لإحياء ليلة لطفلها بمناسبة أول يوم صيام له، لأن عائلتها محافظة والحفلة اقتصرت على النساء فقط، وحسب التقاليد المغربية وقف الطفل الصغير يوسف (10 سنوات) على أول درجة من درجات السلم أثناء الحفل، كما في التقليد المغربي، تيمنا بارتقائه سلم الحياة. وكان الجوق النسائي مؤلفا من أربع عازفات على البندير والتعريجة والدربوكة مع رئيستهن، وقدمن قصائد الملحون وأغنيات الهيت الشعبي.

Thumbnail
Thumbnail

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: