الحراك الشعبي الجزائري وتعرية أحزاب الموالاة والمعارضة

لا يزال الفراغ السياسي يجتاح الجزائر في ظل غياب أي خارطة طريق تحظى بقبول وموافقة كل الأطراف، سواء تعلق الأمر بالجيش الوطني الشعبي الذي يكتفي بموقفين اثنين وهما التمسك الحرفي بالدستور، ومرافقة الحراك الشعبي بواسطة تنفيذ الجزء الأدنى من مطالبه بواسطة الزج بعدد من المدعوين بعصابة النظام الجزائري في السجن بانتظار محاكمتهم على مستوى المحاكم المدنية والعسكرية في آن واحد، أو تعلق بالحراك الشعبي الذي تتظاهر فيه مختلف التيارات جنبا إلى جنب مع المواطنين غير المهيكلين في الجمعيات والأحزاب وذلك كل يوم جمعة عبر القطر الجزائري، من دون أن يفرز هذا الحراك قيادة مركزية لها ممثلون في مختلف المحافظات والبلديات يمكن أن تكون مرجعية لمن يريد التفاوض معها قصد الخروج من النفق المسدود حتى اليوم.

ففي هذا المناخ بالذات اختفت أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة معا، علما أن ظهور قائد أو ممثل عن هذا الحزب أو ذاك ليس إلا مجرد تسجيل للحضور الشكلي الذي لم يثمر أي تأثير يذكر على تعقيدات المشهد السياسي العام.

وفي الواقع فإن هذا الوضع يمثل تأكيدا لعمق أزمة الوضع السياسي الجزائري الذي بقي يهدد استقرار البلاد منذ سنوات طويلة جدا، ولا يبدو في الأفق أي حلّ توافقي بسبب التناقض الصارخ بين أطروحات الجيش ذات الطابع الدستوري، وبين مطالب الحراك الشعبي التي تتطور وتزداد بشكل مطرد.

وجود صعوبات معقدة كثيرة سوف تلعب دورا سلبيا في عرقلة إمكانية تحول الحراك الشعبي إلى كيان سياسي في صورة حزب وطني موحد له عمق شعبي

وفي هذا السياق يلاحظ المحللون السياسيون أن رئاسة أركان الجيش، ومعها قيادات النواحي العسكرية عبر القطر الجزائري، أصبحت واقعة في مطب سياسي حقيقي يتمثل في التمسك بالدستور الذي هو في الحقيقة جوهر الأزمة الجزائرية، خاصة وأنه من تأليف وصياغة العصابة التي حكمت وعاثت في البلاد فسادا طيلة العشريتين الماضيتين. وفي هذا الخصوص يعتقد المراقبون السياسيون أن الإبقاء على هذا الدستور كما هو أمر يعني القبول بتراث العصابة المرفوضة.

ومن الغريب أن أحزاب المعارضة لا تزال تعيد إنتاج نكوصها إلى داخل أزماتها الداخلية ذات الطابع الهيكلي والعقائدي، وتتنزه من بعيد على الفوضى التي تغمر المشهد السياسي الوطني وكأنها بصدد انتظار الفرصة للانقضاض فقط على الغنيمة المتمثلة في الحكم. أما أحزاب الموالاة فهي منهكة جراء تعرض رؤسائها للمساءلة والحبس ولعواصف الرفض الشديد من طرف المواطنين في المدن وفي الجزائر العميقة.

ونتيجة لما سبق ذكره فإن تأثير الحراك الشعبي على الأحزاب الجزائرية، سواء منها أحزاب المعارضة أو أحزاب الموالاة، قد يؤدي إلى انقراضها خاصة وأنها قد فقدت مصداقيتها وبذلك تحولت إلى جزء عضوي سلبي من المشكلة السياسية البنيوية.

لا شك أن مصير أحزاب المعارضة الجزائرية مهدد فعلا ولا ينقذها من الزوال سوى التغيير الراديكالي لكيانها العقائدي الذي تميز منذ إنشائها حتى اليوم بفرض حزمة من الأفكار وقشور الأيديولوجيات المستوردة من الخارج حيث تعمل على فرضها على المجتمع الجزائري على نحو يعمق مجموعة من أنماط التبعية للخارج مثل التبعية للمركز الفرنسي الاستعماري سابقا وللمنظومة الرأسمالية البشعة، فضلا عن استيراد خليط من آفات النظام الرئاسي المتمركز على الرئيس الفرد واللاغي للديمقراطية الشعبية، بالإضافة إلى تكريس التبعية للأصولية الإسلامية في طبعتها الأفغانية التي تعيد المواطنين إلى العصور الدكتاتورية المظلمة، أو للأصولية العثمانية القديمة التي تتنكر للبعد الوطني الجزائري وترسخ في الوقت نفسه القطبية الكونية الإسلامية ومركزية الخلافة ورمزيات الباب العالي القديم.

لا شكّ أن تغيير كل هذا مشروط بتفكيك الأطر القانونية التي تخضع لها هذه الأحزاب وتتحرك بمقتضاها، وفي مقدمتها القوانين التي ترسخ مبدأ المركزية الحزبية المعادلة للتعسف والمؤسسة والداعمة لتقاليد الحكم الفردي الاستبدادي، وبالتخلص من قياداتها الفاشلة وكذا أساليبها المتخلفة في مقاربة المشكلات الكبرى التي يعاني منها المجتمع الجزائري ثقافيا واقتصاديا وتعليميا وسياسة خارجية وغيرها. ومن دون تحقيق هذا الشرط المركب فإن أزمة غياب العلاقة الصحية بين الأحزاب وبين القاعدة الشعبية ستستمر، وأن التعددية الحزبية الجزائرية ستتبخر وتتحول إلى مصدر لتوليد الأزمات والتخلف بكل أشكاله.

هذا الوضع يمثل تأكيدا لعمق أزمة الوضع السياسي الجزائري الذي بقي يهدد استقرار البلاد منذ سنوات طويلة جدا، ولا يبدو في الأفق أي حلّ توافقي

منطقيا فإن جمود أحزاب المعارضة وتحولها إلى عبء سياسي فضلا عن مظاهر التفكك التي بدأت تصيب أحزاب الموالاة، قد تؤدي مجتمعة إلى بروز شخصيات مدنية كاريزمية ذات مصداقية في العمق الشعبي تقود حركة تأسيس أحزاب جديدة لها برامج ومشاريع تقنع المواطنين، وهنا يطرح هذان السؤالان: هل سيصبح الحراك الشعبي نواة صلبة لتشكيل حزب وطني قوي يقلب معادلة المشهد السياسي الجزائري الراكد رأسا على عقب؟ وهل تتوفر لهذا الحراك أرضية فكرية وعقائدية مشتركة ونابعة من الجذور التاريخية الوطنية ومن تنوع عناصر الثقافة الجزائرية وروافد البعد الثقافي الإنساني؟

من الواضح حقا أن الحراك الشعبي في وضعه الراهن هو تشكيل فسيفسائي من الإثنيات التي ما فتئ بعض المغرضين في المشهد السياسي والجمعوي الجزائري يعمل بمختلف الطرق على توظيف تنوعها الثقافي توظيفا متمركزا ومغلقا إثنيا مع الأسف، بدلا من نسجها كتركيبة تغني الهوية الوطنية وتؤسس لميلاد ثقافة وأخلاقيات وطنية يتأسس عليها البعد السياسي الوطني الديمقراطي.

على ضوء ما تقدم فإن المراقب السياسي يلاحظ وجود صعوبات معقدة كثيرة سوف تلعب دورا سلبيا في عرقلة إمكانية تحول الحراك الشعبي إلى كيان سياسي في صورة حزب وطني موحد له عمق شعبي، وفي مقدمة هذه الصعوبات تكوّن الحراك منذ انطلاقته من تيارات متباينة وتوجهات سياسية متناقضة، فضلا عن علاقته المتوترة والبراغماتية مع الجيش الذي يرفض الانصياع لكل مطالبه، ومنها تدشين عهد جديد يفضي إلى بناء أركان الجمهورية الثانية الديمقراطية الشعبية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: