القواعد تتغير في أوروبا: الانتخابات تنتهي ببرلمان مشتت
لعقود من الزمن، خلقت التحالف بين حزب الشعب الأوروبي وحزب اليسار الديمقراطي درجة من الاستقرار في الهيكل الأوروبي، مما سمح للشركات والمستثمرين والأسواق المالية بالتمتع برؤية واضحة لاتجاه سياسة الكتلة. كما ساهم التحالف بين حزب الشعب الأوروبي وحزب الشعب الديمقراطي في تهميش الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية المتطرفة، والتي كانت غير مؤثرة في العمليات التشريعية. لكن، نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة قلبت موازين القوى، وهي ولئن لم تفض إلى تقدم خطير للشعبويين واليمين المتطرف، إلا أنها كسرت قاعدة الثنائية الحزبية وأفضت إلى تركيبة برلمانية مختلفة يمكن أن تبطئ العملية التشريعية في الاتحاد وتعقدها.
بقيت القوة الحقيقية في أوروبا بين أيادي الداعمين للفكرة الأوروبية التقليدية، لكن ذلك لا ينفي أن الانتخابات البرلمانية انتهت بمفارقات عديدة تقلب موازين القوى السياسية، وترسم خارطة مرحلة جديدة وملامح أوروبا مختلفة في الأفق.
واستيقظ الأوروبيون صباح الاثنين على واقع سياسي جديد بعد انتخابات برلمانية أنهت هيمنة أحزاب اليمين واليسار المعتدلين. وأفضت عن مجلس مشتت تفقد فيه الأحزاب الرئيسية قوتها لصالح أطراف أصغر كانت هامشية في السابق. وكشفت عن مشهد سياسي تتمتع فيه جماعات اليمين المتطرف بنفوذ. كما سيكون لأنصار البيئة صوتهم القوي هذه المرة.
من 22 مايو إلى غاية 26 مايو، أقبل الناخبون بأعداد لم تشهدها أوروبا منذ 20 عاما، وحوّلوا مخاوفهم من الهجرة والأمن إلى صناديق الاقتراع. لكن، جاء ذلك لصالح الأحزاب التي يقودها أمثال زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان والإيطالي ماتيو سالفيني، الذي قال، في مقر حزب رابطة الشمال في ميلانو إثر الإعلان عن النتائج الاثنين إن القواعد تتغير في أوروبا. وأضاف “ولدت أوروبا جديدة”.
وفعلا، يلخّص وزير الداخلية الإيطالية ما أفضت إليه الانتخابات، فرغم أن النتائج تحمي الاتحاد الأوروبي من القوى المناهضة للمؤسسات والتي تسعى إلى تفكيك أكبر تكتل تجاري في العالم، إلا أنها رسمت في نفس الوقت خارطة جديدة تصدعت فيها جدران “الائتلاف الكبير” بين تياريْ يمين الوسط ويسار الوسط، الذي ساد على مدى أربعين سنة. أظهرت النتائج الأولية فوز الرابطة بنسبة 33 بالمئة من الأصوات، مع زيادة بنسبة 6 بالمئة عن النتيجة التي حققتها في آخر تصويت أوروبي سنة 2014.
وتصدرت قائمة التجمع الوطني، الحزب اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان نتائج الانتخابات الأوروبية في فرنسا متقدمة 0.9 نقطة على قائمة “النهضة” المدعومة من الرئيس إيمانويل ماكرون بحصولها على 23.31 بالمئة مقابل 22.41 بالمئة. وتصدّر حزب البريكست بزعامة نايجل فاراج المقاعد البريطانية، حيث عاقب المواطنون المحافظين الحاكمين وحزب العمال المعارض لفشلهم المحرج في تحقيق خروج الدولة المقسمة من الاتحاد الأوروبي.
وحصد الليبراليون، بما فيهم حزب ماكرون، 107 من المقاعد الـ751 مقابل 68 مقعدا في البرلمان المنتخب سنة 2014. وحققت الأحزاب البيئية مكاسب قوية في ما أسمته “الموجة الخضراء” في أوروبا، حيث تقدم حزب الخضر خاصة في فرنسا ألمانيا الذي يأمل أعضاؤه في أن يصبحوا محورا لا يمكن تجاوزه في مشهد سياسي لم يكن يوما على هذه الدرجة من التشتت. وقد وصلوا في فرنسا إلى المرتبة الثالثة وحصلوا على 12 بالمئة من الأصوات، وهو ما لم يكن متوقعا.
أغلبية ضعيفة
منذ أول انتخابات في سنة 1959، سيطر حزب الشعب الأوروبي (يمين الوسط) وكتلة الاشتراكيين والديمقراطيين (يسار وسط)، على البرلمان الأوروبية. لكن، اليوم خسر هذا التحالف حظوته، واكتسبت أطراف أخرى مكانة بارزة في المقابل. وكلفهم تقدم القوميين والشعبويين وكذلك الليبراليين والخضر، العشرات من المقاعد في البرلمان الأوروبي الذي يضم 751 مقعدا.
وتشغل شخصيات بارزة في حزب الشعب الأوروبي المناصب العليا في المؤسسات الرئيسية الثلاث للاتحاد الأوروبي: رئيس البرلمان، ورئيس المفوضية ورئيس المجلس الأوروبي. ومن المتوقع أن تضعف هذه العوامل الرؤى الواضحة التي ميّزت ماضي الكتلة.
وقال المرشح الرئيسي لحزب الشعب الأوروبي، مانفريد ويبر “إننا نواجه تقلص الوسط في برلمان الاتحاد الأوروبي. من الآن فصاعدا، يتعيّن على الراغبين في العيش في اتحاد أوروبي قوي أن يوحدوا قواهم”. واعترف المرشح الاشتراكي الرئيسي فرانس تيمرمانز بهزيمته، على الرغم من أن المجموعتين بقيتا الأكبر في المفوضية.
وحسب التقديرات الأولية، بقي الحزب الشعبي الأوروبي القوة الأولى في البرلمان لكنه يشغل حاليا 180 مقعدا مقابل 216 قبل الانتخابات. وطالب قادة هذه الكتلة معتمدين على فوزهم، بأن يترأس زعيمهم مانفريد فيبر المحافظ المثير للجدل، المفوضية الأوروبية. ورفض الاشتراكيون الديمقراطيون القوة الثانية في البرلمان بعد الانتخابات (150 مقعدا مقابل 185 في الدورة السابقة)، هذا الطلب مما ينذر بمفاوضات طويلة وشاقة في السباق الذي بدأ على المناصب الأساسية في المؤسسات الأوروبية.
وقال هولغر شميدينغ، كبير الاقتصاديين في بيرنغيرغ، “مع هذا التصويت، تصبح الساحة السياسية الأوروبية أكثر تفككا وأكثر استقطابا ولو بمقدار قليل”. وأضاف أن “الدعم داخل الأحزاب التقليدية أفلت بعض الشيء من يمين الوسط ويسار الوسط نحو الليبراليين والخضر، أي إلى مجموعات غالبا ما تكون أفكارها متناقضة تماما”.
ولن تتمكن كتلتا الحزب الشعبي الأوروبي، والاشتراكيين والديمقراطيين، من إعادة تشكيل “التحالف الكبير” الذي أتاح لهما سابقا بناء توافقات حول نصوص تشريعية وتقاسم المناصب القيادية.
وقال سيباستيان مايار، من معهد ديلور، “من أجل الحصول على غالبية يجب التحالف بين ثلاثة أطراف على الأقل أو حتى أربعة لتأمين غالبية متينة. وهذا يرغم على الاتجاه نحو تحالف بأربعة أطراف، أو حتى عقد تحالف” بين الكتل السياسية.
بات يتحتم عل الحزب الشعبي الأوروبي، والاشتراكيين والديمقراطيين، مشاورة دعاة حماية البيئة الذين ارتفع عدد مقاعدهم من 52 إلى 70، بفضل النتائج الجيدة التي سجلوها في فرنسا وألمانيا، والليبراليين بما فيهم حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذين حصلوا على 107 مقاعد مقابل 69 في البرلمان السابق.
وخسر ماكرون أحد القادة الأكثر تمسكا بتعميق البناء الأوروبي، هذه الانتخابات أمام حزب التجمع الوطني اليميني القومي الذي تقوده مارين لوبان في نتيجة يمكن أن تؤثر على تطلعاته للقارة المنهكة.
ودعا التجمع الوطني على الفور إلى “تشكيل مجموعة قوية: في البرلمان الأوروبي تضم المشككين في جدوى الوحدة الأوروبية، وهم قوى غير متجانسة لم تنجح في الاتحاد في الماضي. وتأمل لوبان مع حزب الرابطة، بقيادة ماتيو سالفيني تشكيل تحالف يضم الأحزاب القومية والمشككة في أوروبا والشعبوية. وتشير التوقعات إلى أن كتلتهم ستشغل 58 مقعدا مقابل 37 في البرلمان الحالي.
لكن من الصعب التكهن بتقارب مع المجموعة الشعبوية التي تضم حركة خمس نجوم الإيطالية ويتوقّع أن ينضم إليها حزب بريكست، بسبب الخلافات العميقة بين المجموعتين. وحتى إذا أضيفت نتائج الكتلتين إلى المقاعد الـ58 التي حصدتها مجموعة “الأوروبيين المحافظين والإصلاحيين” (تضم في صفوفها حزب المحافظين البريطاني والحزب الحاكم في بولندا الفائزيْن في الانتخابات الأوروبية)، وكذلك اليمين القومي والمشككين في أوروبا… فلن تشغل أكثر من 172 مقعدا وهو رقم بعيد عن الأغلبية المحددة في البرلمان بـ376 مقعدا.
مع ذلك ستظل الأحزاب المتشككة في الكتلة الأوروبية مجزأة مع انتماء الأحزاب القومية إلى العديد من الكتل المختلفة في البرلمان. لكن، قد يؤثر صعودها على الأحزاب الرئيسية لينقلها نحو تبنّي مواقف سياسية أكثر تطرّفا. ويعني زيادة عدد المقاعد في البرلمان الأوروبي زيادة في المنابر والموارد المالية الخاصة بالمتشككين. وقالت مفوضة شؤون المنافسة بالاتحاد الأوروبي مارغريت فيستجر إن احتكار بعض الأحزاب للسلطة انتهى، واصفة النتائج بأنها “إشارة للتغيير”.
سحابة صغيرة
ستكون إعادة تشكّل المشهد السياسي هذه ستكون حاسمة للسباق إلى المناصب الأساسية في المؤسسات الأوروبية، وخصوصا رئاسة المفوضية. ويمكن أن يخلق البرلمان المجزأ مشاكل في الآلية التي تتخذ المجالس عبرها قرارات مشتركة مع المفوضية الأوروبية. ومن أجل الموافقة على قانون في الاتحاد الأوروبي، يجب على الطرفين المصادقة على التشريع. ونادرا ما يفشل هذا بفضل توصل البرلمان والمفوضية إلى حلول وسطية. ويمكن أن تقلل تشكيلة البرلمان الجديدة من الانسجام بين فروع الكتلة.