“التكفير” مخدرات ضد العقل وثقافة التنوير
في هذا الزمن المتوحش دينيّا، أصبح لكل قناة مُفْتِيها ولكل جريدة صفحة خاصة بالفتوى ولكل إذاعة مُفْتِيها… بل أصبحت هناك قنوات كاملة بقضها وقضيضها متخصصة في إصدار الفتاوى، وأصبحت الفتوى سلعا تباع. واختلط الحابل بالنابل في يوميات المؤمن المسلم البسيط، وتشكلت في الثقافة العربية والمغاربية الإسلامية فرق من نجوم الفتاوى من “الفقهاء”، فقهاء الظلام على حد تعبير الروائي الكردي سليم بركات، نجوم صنعتهم بعض الشاشات ومنابر بعض المساجد الكبيرة الرمزية التي انقضوا عليها.
وأصبحت الفتوى في كل شيء وضد كل شيء، تحرم كل شيء وقادرة في الوقت نفسه أن تحلل كل شيء، تحرم الزنا وتحلل زنا الجهاد أو جهاد النكاح، تحرم زنا المحارم وتحللها في الجهاد… وغيرها من الأشياء الغريبة التي نسمعها أو نقرأها صادرة من بعض الجهال ممن أطلقوا اللحى واستثمروا في جهل المواطن البسيط، فاعتبروا أنفسهم من طبقة العلماء والفهماء.
وأمام هذا الوضع الديني الجنوني والمجنون يعيش المثقف التنويري حالة من الحصار والرعب في مجتمعه، يجد نفسه ما بين المطرقة والسندان، بين الرقابة والتكميم الذي تمارسه، من جهة، الأنظمة الدكتاتورية التي تغتصب السلطة وتدير الشأن السياسي في الدول العربية والمغاربية والإسلامية، ومن جهة أخرى أصوات أهل الفتاوى الغريبة التي منبعها حلقات التطرف الديني من سلفية وإخوانية سياسية، وهي في غالبية الحال آلة مؤقتة في يد السلطان يستعملها لضرب خصومه السياسيين من فضاء التنوير، هذه القوى الدينية تسعى لإشاعة ثقافة الخوف في المجتمع والترهيب والتهديد بالموت ضد حرية المثقف التنويري.
التكفير كممارسة فكرية وجسدية فاشية غاية في الخطورة هدفها إسكات المثقفين والعقول النيرة وقمع ثقافة التسامح
لذا وجب وبسرعة إصدار قانون واضح المعالم والبنود يتم فيه تجريم ظاهرة “التكفير”، وبموجبه يعاقب كل من يستعمل هذا السلاح الفاشي الذي هو التكفير ضد المثقفين ليحرمهم حقهم في التفكير الحر وحقهم أيضا في ممارسة حياتهم بما يكفله لهم القانون من حرية المعتقد وحرية اللامعتقد.
وأعتقد أن التكفير كممارسة فكرية وجسدية فاشية لا تقل خطورة عن التحرش الجنسي أو العنف ضد المرأة أو اغتصاب الأطفال أو خيانة الوطن، لذا وجب التفكير في تشكيل جبهة عريضة من جميع القوى الثقافية والإبداعية والفكرية والسياسية التنويرية لإدانة كل الفضاءات والمنابر التي تسمح بإشاعة أو باحتضان أو برعاية هذا المرض الفكري الذي هو “التكفير” سلاح الفاشية الدينية الإسلاموية.
لقد أصبحت اليوم شبكات التواصل الاجتماعي مرتعا خصبا لمرتزقة الإرهاب الفكري الذين يمارسون إصدار فتاوى في كل مناسبة وضد كل شخص لا يتفقون معه ودون رادع قانوني، يمارسون حربهم الإرهابية هذه وبكثير من الطمأنينة ضد كل من يحاول طرح أسئلة تختلف أو تتعارض مع أفكارهم السلفية الدموية.
لقد أصبحت الفتاوى عابرة للقارات كما هي المخدرات، وأصبح التكفير حربا على العقل كما هي حرب المخدرات. لذا بدأ التفكير اليوم، وقد جاء متأخرا جدا، في أوروبا في البحث عن وضع آليات تكنولوجية وترسانة قوانين ضد “التكفير” وضد كل أشكال “العنف” التي تمارسها قوى الشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها. يجب محاصرة ومحاربة هذه القوى التكفيرية في كل حركاتها على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ويلعب العلماء التكنولوجيون دورا كبيرا كجنرالات لهذه الحرب الخطيرة والمدمرة للإنسان، وهو ما قد يقلل من الشر في هذا العالم ويشجع قوى التفكير والتنوير من أجل صناعة غد خير للإنسانية.
من خلال حوارات كثيرة، البرلمانَ الجزائري بسن قانون لتجريم “التكفير” الذي يمارس مباشرة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد عرفت الساحة الفكرية في الجزائر في الأسبوع الفارط مثالا واضحا أبان عن قوى الشر التي تبيّت لكل فكر نقدي اجتهادي، ويتمثل الأمر في التهديدات اللفظية الجارحة وغير الأخلاقية والمسنودة بإصدار فتاوى تدعو إلى هدر دم الباحث الإسلامولوجي الأستاذ سعيد جاب الخير، وهو الباحث المتخصص في الشريعة الإسلامية، والذي يشتغل مذ أزيد من عشرية حول موضوع التراث الإسلامي والتصوف والحركات السياسية الدينية الإسلامية، وفي كل كتاباته ومحاضراته ومداخلاته العامة أو الخاصة يجتهد في طرح أسئلة جديدة وجادة من داخل التراث الإسلامي نفسه وبنصوصه المقدسة أو البشرية نفسها.
يعيش المثقف التنويري حالة من الحصار والرعب في مجتمعه، يجد نفسه ما بين المطرقة والسندان، بين الرقابة والتكميم الذي تمارسه، من جهة، الأنظمة الدكتاتورية
في واحدة من النقاشات التلفزيونية الأخيرة عن ظاهرة الصيام “هل هو اختياري أم إجباري في الإسلام؟”، طرح الأستاذ سعيد جاب الخير رأيه الذي استقاه من النص القرآني ومن التراث الإسلامي والذي يرى بأن “الصيام ليس إجباريا في الإسلام”، بدليل أن المسلمين الأوائل كان بعضهم لا يصوم ويدفع مقابل هذا الإفطار جزية من المال أو الأكل للفقراء والمحتاجين.
وفي اليوم التالي لبث الندوة، شنّت قوى التكفير والخلايا الإرهابية التي هي في قيلولة سياسية هجوما على الباحث مطالبين بتصفيته الجسدية. وقد وصل بأحد المواقع على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك أن قام بإعطاء عنوان إقامة الباحث وطالب بتصفيته وإسكات صوته، كل ذلك بكل وقاحة وبوجه مكشوف.
إن خلايا التكفير التي عرفها الإسلام السياسي منذ القرن الأول للهجرة لا تزال تعيش بيننا في هذا الزمن، قد تكون غيّرت من شكلها ومن الوسائل المستعملة الآن، لكن فكرها لا يزال هو نفسه لم يتغير.
يعتقد “التكفيريون” بأنهم وحدهم المخولون دينيا للدفاع عن الله، فالله بحاجة إليهم وليسوا هم من بحاجة إلى الله، وأنهم يملكون الحقيقة المطلقة التي لا تناقش، وأن غيرهم على خطأ وبالتالي فكل من يختلف عنهم هو خطر على “وجود الله” لذا يجب تصفيته جسديا.
والتكفيريون يؤمنون بأنهم نواب الله، في هذه الدنيا، يقومون مقامه وكأنه عاجز في الحكم على الناس وتصنيفهم بالإيجاب أو بالسلب، والتكفيريون يعتبرون أنفسهم هم من يملك مفاتيح الجنة والنار، يفتحون أبواب هذه أو تلك لمن يشاؤون ومتى شاؤوا، وهم من يحدد وجهة هذا أو ذاك، فيرسلوه إلى الجنة أوالى النار، التكفيريون هم من يوزعون على الناس تذاكر الدخول إلى الجنة كما توزع تذاكر الدخول إلى ملعب رياضي أو إلى قاعة عرض سينمائي هوليوودي!!