النجاح لا يدرّس في المدارس
إذا كانت المناهج المدرسية تسعى إلى تدريب أذهان الطلبة، وتعزيز قدراتهم المعرفية، فإن أنشطة مثل الرسم والمطالعة والتمثيل يمكن أن تساهم بقدر كبير في هذه العملية
تركز المناهج التعليمية على جانب ينظر إليه على أنه الأهم بالنسبة إلى الطلبة، وهو تحسين الذكاء الأكاديمي. لكن نجاح الشخص في مجال ما، لا يعتمد بالأساس على السنوات التي قضاها في الدراسة والتعلم، بل على طريقة تفكيره ومدى قدرته على الاستنباط واستيعاب ما لا يمكن لغيره أن يراه أو يتصوره.
في عشرينات القرن الماضي قام لويس تيرمان، الباحث في علم النفس التربوي بجامعة ستانفورد، بدراسة عبقرية الأطفال الموهوبين لفترة طويلة من حياته، وقد كان قبل إجرائه الاختبار مقتنعا بأن معدلات الذكاء هي مفتاح النجاح في الحياة لاحقا، لكن النتائج التي توصل إليها كانت مثيرة للدهشة.
عندما ركَّز تيرمان على اختبار حاصل الذكاء، استبعد أطفالا مثل لويس ألفاريز وويليام شوكلي، اللذين لم يكونا من الأطفال النابغين ولكنهما تمكّنا لاحقا من الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء.
واتسم الأطفال الذين أجرى عليهم التجربة بمعدلات ذكاء خارقة، لكن قرابة ربعهم انتهى بهم الحال إلى العمل في وظائف بسيطة، إذ أصبحوا موظفين أو ضباط شرطة أو مندوبي مبيعات أو حرفيين.
ولذلك اضطُرَّ تيرمان بعد 20 عاما من البحث إلى الاعتراف بأن “الذكاء والنجاح في الحياة لا تجمعهما دائما علاقة ارتباط”.
هناك في المقابل نمط آخر من التفكير “غير الاعتيادي”، يتصف بالإبداع وجموح الخيال وتوالد الأفكار والخروج عن التفكير المألوف، وجميعها صفات لا تدرّس في المدارس، لكنها تضمن لأصحابها الكثير من المآثر في الحياة.وقد عُرف فنان عصر النهضة ليوناردو دافينشي بالقدرة على استحداث الجديد، والسير في الطرق غير المطروقة سابقا، من دون أن يخشى الفشل. وما جعله متعدد المواهب هو أنه كان بين الفينة والأخرى يتوقف عن الرسم حتى يفسح المجال لخياله كي يجنّح بعيدا، فهذا النشاط التأملي ساعده كثيرا على التركيز وتوجيه أفكاره وصياغتها بشيفرة خاصة من اليمين إلى اليسار، وبأحرف مغايرة لشكلها الأصلي، حتى لا يتمكن أحد من سرقة أفكاره.
ومن المعروف أن تدفق الخيال عادةً ما يبدأ من مراحل الطفولة المبكرة، وهي المرحلة التي يكون فيها لدى الأطفال استعداد لإيلاء المواقف الخارجة عن المألوف اهتمامًا إضافيًّا.
وتشير بعض الأبحاث إلى أن السياق التخيُّلي من شأنه أن يحسِّن قدرات التعلُّم لدى لطفل، ويكسبه ما يسمى بـ”الأفضلية الخيالية”، التي قد تساعده على تبني نهج جديد في التعليم، وربما يلقي هذا الضوء على رواد الخيال العلمي الذين تحولوا اليوم إلى ظاهرة كونية، بسبب ما تميزت به تصوراتهم من دقة بالغة وتأثير على الأدب ومختلف المنجزات العلمية والاكتشافات.
وفي هذا الصدد أستحضر الروائي البريطاني جون برانر، مؤلف الخيال العلمي الذي نشأ في عصر كانت فيه كلمة “لاسلكي” مرادفا للمذياع.
استطاع برانر في روايته التي حملت عنوان “الوقوف في زنجبار” ونشرت عام 1968، التنبؤ بظهور الأجهزة الإلكترونية التي يمكن ارتداؤها وبالمحادثات المرئية والفياغرا وحتى بحوادث إطلاق النار الجماعي.
هذه القدرة الذهنية لا تعتمد على الذكاء الفطري أو على ما يكتسبه المرء من التعليم فحسب، بل على العديد من التجارب والأنشطة والألعاب التي تحفز على التفكير، ومن المؤسف أنها لم تعد تؤخذ بعين الاعتبار في أغلب البيئات الأسرية والمدرسية.
في الأسر الحديثة، ربما لم يعد الأطفال يحلقون حول أجدادهم، لسماعهم وهم يقصون عليهم بعض القصص الخيالية، ولعل معظمهم لا يعرفون شيئا عن حصص المطالعة المدرسية واستعارة الكتب والروايات من المكتبات التي لم يعد لها وجود في أغلب المدارس اليوم.
فإذا كانت المناهج المدرسية تسعى إلى تدريب أذهان الطلبة، وتعزيز قدراتهم المعرفية، فإن أنشطة مثل الرسم والمطالعة والتمثيل يمكن أن تساهم بقدر كبير في هذه العملية، فهي تساعد على اكتشاف قدراتهم وميولهم واستعداداتهم الفطرية، وتعمل أيضا على صقل مواهبهم وتنميتها، وجعلهم أكثر قدرة على مواجهة مختلف المواقف الحياتية، إضافة إلى أنها قد تساعدهم على تكوين علاقات اجتماعية سليمة.
من المنظور التطوري، استنفاد قسط من الحصص المدرسية في هذه الأنشطة، لا بد أن يفسر بأكثر من مجرد التسلية؛ فالتفكير الجيد مهارة يمكن أيضا تعلمها والتدرب عليها منذ الصغر.
وتعد مرحلة الطفولة فترة نمو الدماغ وتكوّن السلوك، وبالتالي لا بد من استغلالها بالشكل الأمثل، فقد تتيح مثلا ممارسة النشاط المسرحي للطفل فرصة ثمينة لتقمص أدوار تمثيلية متعددة، تساعده على استخدام تعبيرات تدل على “هو” أو “هي”، بدلاً من “أنا”، ما يقلل التعصب لديه، وقد تؤدي بدورها إلى جعله يتعرف على نقاط ضعفه وقوته، وهذا في حد ذاته اكتشاف لقيمته ولما يمكن أن يطوره في نفسه.