أوروبا في مواجهة انتخابات حاسمة للقضايا القارية
تشير التوقعات بشأن انتخابات البرلمان الأوروبي التي بدأت الخميس وتنتهي الأحد إلى أن التصويت فيها سيكون حاسما حيث سيحدث تغييرات عميقة على المشهد السياسي داخل القارة بالنظر إلى تداعياته المحتملة على سياسة الاتحاد المستقبلية، كما التحالفات الحكومية غير المتينة في دول مثل إيطاليا وألمانيا والمزيد من تجزئة البرلمانات في كل من بلجيكا وإسبانيا ما يعمق حالة عدم اليقين السياسي. كما تمثل الانتخابات الأوروبية استفتاء على الأداء الحكومي خاصة في بولندا ورومانيا وفرنسا التي تستعد المعارضة فيها لتقديم نفسها بديلة للأحزاب الحاكمة في حال فشلها في انتخابات البرلمان الأوروبي.
بروكسل- تعيش دول الاتحاد الأوروبي، منذ الخميس 22 مايو إلى غاية الأحد 26 مايو، على وقع الانتخابات البرلمانية الأوروبية. وعلى غير ما سبق من مناسبات مماثلة، تكتسي الانتخابات الراهنة أهمية قصوى نظرا لأنها ستحدّد شكل أوروبا في المستقبل في ظل التنافس بين قوى يمينية متطرفة والتيارات الليبرالية التقليدية وصعود خطاب مناهض للمشروع الأوروبي ككل.
تقول الكاتبة في صحيفة الغارديان ناتالي نوغايريد إن هذه الانتخابات، التي تعقد لأول مرة منذ البريكست ومنذ أزمة اللاجئين، والأولى منذ التصويت على البريكست، ومنذ انتخابات ترامب وما صاحبها من صعود للموجة الشعبوية، هي فرصة لإعادة اكتشاف أوروبا، واستعادة تلك الروح التي تحدثت عنها سيمون فيل أور رئيسة البرلمان الأوروبي، حين قالت، مع انعقاد أول انتخابات قبل أربعين سنة، “من خلال تحديد طموحاتها الكبيرة، ستكون أوروبا قادرة على إسماع صوتها والدفاع عن القيم القوية: السلام، حقوق الإنسان، الدفع نحو المزيد من التضامن بين الأغنياء والفقراء. أوروبا هي التصميم الكبير للقرن الحادي والعشرين”.
ويذهب في ذات التأكيد محللون ومتابعون كثر يرون أن هذه الانتخابات تكتسي أهمية كبرى في ظل التوقعات بالتغيرات التي ستطرأ على المشهد السياسي داخل الاتحاد الأوروبي، لا سيما في ما يتعلق بحدوث انقسامات جديدة ستزيد من تعقيدات الأوضاع في ساحة مليئة بالروايات المتصادمة “القوميون ضد التقدميين”، والمدافعون عن “المسيحية” مقابل “نخبة 1968” (حسب ما قاله رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان)، والمتطرفون مقابل الديمقراطيين الاجتماعيين، و”الشعب مقابل النخبة”.
ويرى لوك فان ميدل، المحلل في مجلة نيو ستايتسمان أميركا، أن الاتحاد الأوروبي يمر بـ”لحظة مكيافيلية” منذ التصويت لصالح خروج بريطانيا، وتوسعت هذه اللحظة مع صعود الشعبويين والمشككين في التكتل، الذي فقد “قدسيته” وبات ينظر إليه على أنه غير خالد، وأن عليه القتال من أجل إبقاء سيادته وسلطته قائمة، إن لم يرد أن يدمّر.
تبدو المنافسة في هذه الانتخابات واضحة بين الأوروبيين “التقليديين” المتمسكين بالوحدة، والأوروبيين “المتمردين” على فكرة الاتحاد الأوروبي دولة واحدة. ووضع صراع القيم الأساسية هذا القارة في مفترق تاريخي.
وبينما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المؤيد للتكامل، إن التحدي يكمن في عدم الهبوط إلى تحالف مدمر ومفكك يفسد الوحدة التي أسسها الاتحاد الأوروبي على مدار 6 عقود. ويقف في الضفة المقابلة، وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والزعيمة الفرنسية اليمينية المتطرفة مارين لوبان، بالإضافة إلى مجموعة من الزعماء الشعبويين اليمينيين متعهدين بقلب المشهد السياسي في أوروبا.
ويلخص سيرجيو فابريني، مدير كلية الدراسات الحكومية في جامعة لويس جيدو كارلي في روما، هذا المأزق، بقوله “إن أوروبا لم تتحرر من مفهوم السيادة. في وضع السيادة الأوروبية ضد السيادة الوطنية خطأ من شأنه أن يكلف الكتلة ثمنا باهظا”.
العمل على منهج ترامب
تريد الأحزاب اليمينية المتطرفة والقومية في أوروبا اتباع خطى الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية سنة 2016 وما حققه البريطانيون في استفتاء مغادرة الاتحاد الأوروبي. يكمن هذا النهج في تعطيل القوى الموجودة، ومكافحة ما يعتبرونه “نخبة”، وتحذير الأوروبيين “الأصليين” من المهاجرين الذين يتجمعون على حدود بلادهم مستعدين لسرقة وظائفهم وثقافة البيض.
وأمام خطاب الشعبويين الحماسي والذي يستفيد من أزمة الضرائب المرتفعة والأجور الراكدة والفجوة بين الأغنياء والفقراء والتهديد الإرهابي والخطاب القومي وقضية الهجرة واللاجئين والتخويف من تحول السكان الأصليين إلى أقلية مقابل أغلبية من أصول مهاجرة، تلاشت بالنسبة للكثيرين من مواطني الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم نصف مليار، ذكريات الحرب ونسي دور الاتحاد الأوروبي في المساعدة على الحفاظ على السلام لمدة 75 عاما (وهو إنجاز منحه جائزة نوبل).
في ظل هذه الأجواء تتوقع قراءات مركز ستراتفور للدراسات الأمنية والإستراتيجية حدوث انقسامات في أعقاب الانتخابات. وإن كان الخبراء لا يرجحون فقدان الأحزاب المؤيدة للاتحاد الأوروبي سيطرتها على البرلمان، إلا أن وعد مارين لوبان “بأداء تاريخي”، وقولها إن التحالف قادر على نيل المرتبة الثانية كأكبر مجموعة سياسية في برلمان الاتحاد الأوروبي، يبقى ذي أهمية.
تداعيات داخلية
محليا، يتيح التصويت فرصة للناخبين ليعبروا عن آرائهم بشأن حكوماتهم الوطنية، وهو ما يعني وجود تداعيات داخلية للانتخابات يمكن أن تؤدي إلى تغييرات سياسية في بعض أبرز دول الكتلة، بالإضافة إلى خلق حالة من الجمود السياسي في بروكسل.
ففي إيطاليا، تمثل انتخابات البرلمان الأوروبي اختبارا لشعبية الأحزاب الحاكمة في إيطاليا من حركة النجوم الخمسة إلى حزب الرابطة اليميني المتطرف الذي يرأسه ماتيو سالفيني، بعد عام من الانتخابات العامة التي أجريت في مارس الماضي.
وكان تحالف الأحزاب مضطربا منذ البداية، حيث يناضل الطرفان في الكثير من الأحيان لصياغة مواقف متماسكة بشأن السياسة الإيطالية. ومن المتوقع أن تثير الانتخابات المترقبة معارك جديدة داخل الحكومة، حيث تسعى كل من حركة النجوم الخمسة وحزب الرابطة إلى إبراز نفسيهما في أعين الناخبين.
ويبدو المشهد السياسي في ألمانيا شبيها بنظيره الإيطالي إلى حد ما، حيث ستقيم الانتخابات الأوروبية أداء الائتلاف الحاكم في ألمانيا. ومن المتوقع أن يفوز حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي المحافظ في التصويت، لكن يمكن أن يقنع أداء هذا الحزب رئيسته أنجيلا ميركل بالخروج من الساحة السياسية قبل رحيلها المبرمج لعام 2021.
كما يمكن أن تتقوى الفصائل داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، التي تريد أن يترك اليسار المعتدل الحكومة ويقضي بعض الوقت في المعارضة حتى يتمكن من تجديد شعبيته وتحسينها. ووفق تقارير ستراتفور فإن حدوث هذا الأمر من شأنه أن يجعل أكبر اقتصاد في أوروبا في قبضة حكومة أقلية، مما يزيد من احتمالات إجراء انتخابات عامة مبكرة. ويمكن أن تلقي نتائج ذلك بظلالها على الاتحاد الأوروبي الذي ينظر إلى ألمانيا باعتبارها “القائد” الأقدر على قيادة المركب الأوروبي، فيما يتساءل روبرت كاجان، الباحث بمعهد بروكينجز: هل يمكن للألمان في ظل هذه الظروف أن يقاوموا العودة إلى القومية الخاصة بهم؟
ليجيب مؤكدا على أهمية خروج ألمانيا من دائرة التهديد الذي يمكن أن يمثله صعود حزب البديل من أجل ألمانيا، ومشيرا إلى أنه لمواجهة العاصفة التي تهدد بقاء أوروبا موحدة، قد يكون من الجيد الاعتماد على الشعب الألماني لإنقاذها وكذلك العالم من هذا المصير، لكن إن لم يستطع ذلك، فقد يكون الانهيار الأوروبي قريبا، ليس في تفكك الاتحاد فحسب، بل في سيادة القومية من جديد، والعودة إلى الانقسام الأوروبي، وعدم الاستقرار الذي أدى إلى الحروب العالمية.
برلمانات منقسمة
في إسبانيا، سيكون يوم 26 مايو تاريخا حافلا في هذا البلد، الذي سيحتضن انتخابات البرلمان الأوروبي بالإضافة إلى الانتخابات المحلية والبلدية في مدن كبيرة مثل مدريد وبرشلونة وفالنسيا.
وكانت إسبانيا قد أجرت في 28 أبريل انتخابات عامة مبكرة وخرجت منها مع برلمان مجزأ. وتقرر تأخير تشكيل الحكومة الجديدة إلى ما بعد 26 مايو، فالقادة السياسيون لا يرغبون في عقد أي اتفاقات في وقت يتنافسون فيه ضمن حملات على المستويات الأوروبية والإقليمية والبلدية.
بدورها، ستعيش بلجيكا يوما مميزا في 26 مايو باعتبار تنظيم البلاد لانتخابات ثلاثية فيدرالية وإقليمية وبلدية بالإضافة إلى التصويت الأوروبي. ومن المرجح أن تسفر الانتخابات المحلية عن برلمان منقسم آخر، حيث سيمهد غياب التوافق في الآراء الطريق لعدة أشهر أخرى من المفاوضات لتعيين حكومة.
فوضى بريكست
تجد المملكة المتحدة نفسها مجبرة على المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية. وتشير استطلاعات الرأي إلى إمكانية فوز “حزب بريكست” الجديد في الانتخابات بحوالي ثلث الأصوات، يليه حزب العمال اليساري المعتدل الذي يدافع عن خروج أخف (بما في ذلك استمرار عضوية البلاد في الاتحاد الجمركي للكتلة).
ووفق الخبراء “ستكون آثار ذلك عميقة” إذا أكدت نتائج الانتخابات هذه التوقعات. فنجاح حزب بريكست سيبعث رسالة مفادها رغبة نسبة كبيرة من الناخبين البريطانيين في خروج كامل من الاتحاد الأوروبي، ما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة داخل حزب المحافظين الحاكم. وسيسفر هذا السيناريو عن تزايد الدعوات لاستقالة رئيسة الوزراء تيريزا ماي. وإلى جانب ذلك، يمكن أن يحدّ أداء المحافظين الضعيف في الانتخابات الأوروبية من سعي الحزب نحو إجراء انتخابات عامة مبكرة، لأنه قد يخسر عددا كبيرا من المقاعد في مجلس العموم. وتشير استطلاعات الرأي إلى إمكانية استبدال ماي بطرف أكثر تشددا، مما سيزيد من فرص انفصال بريطانيا التام من الاتحاد الأوروبي.
في رومانيا، سبقت الاضطرابات السياسية والحرب الكلامية بين الرئيس ورئيسة الوزراء والمظاهرات المناهضة للحكومة في بوخارست وأماكن أخرى من البلاد إجراء الانتخابات الأوروبية. وفي أواخر مارس الماضي، أعلن الرئيس المحافظ كلاوس يوهانيس، أن البلاد ستجري استفتاء يوم 26 مايو لإلغاء عفو الحكومة الأخير عن جرائم الفساد. ويأمل يوهانيس أن تصل نسبة المشاركة إلى الـ30 بالمئة اللازمة لتشريع النتائج.
وفي فرنسا، ستكون الانتخابات منافسة حادة بين حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الليبرالي “الجمهورية إلى الأمام” والتيار القومي اليميني المتطرف. وسعى ماكرون في الأشهر الأخيرة إلى استعادة المبادرة السياسية من خلال طرح سياسة تشمل تخفيضات ضريبية تبلغ قيمتها نحو خمسة مليارات يورو، لكن، ليس من المؤكد بعد إذا كانت هذه الخطوة من شأنها إقناع الناخبين بدعم حزبه. وقد يؤدي أداء الحزب الضعيف إلى تعريض خطط ماكرون المستقبلية للإصلاح، والتي تشمل إصلاح نظام المعاشات التقاعدية والقطاع العام. وستكون لهذا تداعياته على خططه الأوروبية ومشروعه “لنهضة أوروبا”.
وبالنسبة لبولندا، ستقدم انتخابات البرلمان الأوروبي لمحة عن الانتخابات العامة في البلاد، والتي ستجرى في أكتوبر القادم. وفيما حافظ حزب القانون والعدالة الوطني المحافظ الحاكم في بولندا على شعبيته، قررت أحزاب بارزة من المعارضة توحيد جهودها لخوض الانتخابات الأوروبية.
يرجح الخبراء أن يخلق التصويت البرلماني الأوروبي مصدرا إضافيا لعدم اليقين في جميع أنحاء أوروبا، تزامنا مع تزايد المخاطر السياسية في القارة إلى جانب الانقسامات الحادة التي يشهدها المشهد الانتخابي. ونتيجة لذلك، سيعمق التصويت، الذي ينتظر أن يحدد مستقبل المنطقة، الانقسامات المحلية في عدد من الدول المنتمية إلى الكتلة الأوروبية، كما في داخل البرلمان الأوروبي.
وفي ظل هذه الأجواء، تبدو واضحة حاجة الاتحاد الأوروبي إلى بناء قدراته المؤسسية في مركزه، كما حاجة الدول الأعضاء إلى أن تتمتع بقوتها المؤسسية؛ فيما يذهب سيرجيو فابريني إلى التأكيد على أن هناك حاجة لاتحاد فيدرالي لإصلاح تقسيم أوروبا، التي تبدو بعيدة عن أفكار العالم الجديد.