كيف يتحول العلماء إلى عملاء؟
أتم الشاب الواعد جيمس كلايتون دراسته العلمية في المركز الأول على دفعته. يعمل جيمس ساقيا في حانة، حيث يفكر في خطوته العملية القادمة. يقابله والتر بورك الذي يجند الأفراد للعمل بالمخابرات المركزية الأميركية، ويرى في كلايتون قدرة على العمل في المخابرات. يوافق كلايتون على العرض وينضم إلى مركز التدريب.
تشبه قصة فيلم “المجند” بطولة آل باتشينو إلى حد كبير قصصا واقعية كثيرة أبطالها عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية الذين يقومون في الواقع بنفس دور كلايتون، حيث يتصيّدون العلماء من كل مكان في العالم، لتحويلهم إلى جواسيس وعملاء يعملون لفائدة الـ“سي. آي. إيه”.
وطريقة تجنيد جيمس كلايتون، هي طريق من بين عدة طرق لاستقطاب العلماء تتنوع من بيئة (بلد) إلى أخرى وتتطور وفق خصوصيات المرحلة الزمنية وطبيعة المجندين. وسلطت صحيفة الغارديان البريطانية مؤخرا في تحقيق موسّع نشره دانيال غولدن الضوء حول أكثر الطرق التي تتبعها وكالة الاستخبارات المركزية في تجنيد العلماء منذ سنوات، والتي تقوم على استغلال المؤتمرات العلمية بهدف إقناع باحثين وعلماء، وخصوصا في المجال النووي بالعمل لفائدتها.
|
بيئة خصبة
فطنت أجهزة الاستخبارات الدولية منذ بداية الحرب العالمية الثانية إلى أهمية تجنيد الجواسيس من داخل الأوساط العلمية والأكاديمية. وشهدت هذه العمليات أعلى نشاطاتها خلال الحرب الباردة. ومن أشهر الجواسيس خلال الحرب الباردة عالم الطبيعة النووي الألماني-الإنكليزي كلاوس فوخس الذي كان ضمن العلماء الذين يعملون في مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية الذي كانت تشترك فيه بريطانيا وأميركا، لكنه أفشى أسرار المشروع كاملا لصالح الاستخبارات السوفييتية.
وترى الأجهزة الاستخباراتية أن البيئة التي يتواجد فيها العلماء بيئة خصبة لاستدراج أسماء بعينها ترغب في تجنيدهم وإقناعهم. وعلى غير ما يعتقد الكثيرون فإن المؤتمرات والمنتديات الأكاديمية الدولية لا تكون بريئة وهدفها العلم وحسب، بل في كثير من الأحيان يكون الغرض منها الإيقاع بعلماء مرموقين لتجنيدهم لخدمة سياسات الدول التي عقدت هذا المؤتمر أو ذاك، وجهاز الاستخبارات الأميركية (سي. آي. إيه) مشهود له بالتفوق على سواه في هذا الشأن.
وكما يتم استهداف الأحياء الفقيرة في المدن الكبرى لتجنيد شبابها في صفوف الجيش (نظرا إلى احتياج هؤلاء الشباب للمال والمكانة)، يُعدّ علماء دول العالم الثالث وأيضا الدول التي تشهد تضييقا كبيرا هدفا سهلا للاصطياد، من ذلك إيران وكوريا الشمالية.
ولا تعد عملية تجنيد هؤلاء العلماء والباحثين أمرا سهلا، وإنما تلجأ المخابرات إلى أساليب وحيل في منتهى التقدم والبراعة مستغلة في هذا ما أتاحته العولمة والثورة العلمية من وسائل اتصال متطورة جدا، وأيضا فإن تلك المؤتمرات العلمية أصبحت من الكثرة ما سهّل على الأجهزة “الخفيّة” العمل بمنتهى الحرية.
ويوضح مارك غاليوتي، الباحث في معهد العلاقات الدولية في براغ وأحد مستشاري الخارجية البريطانية، في شهادته التي أوردها تحقيق الغارديان، أن تجنيد العلماء عملية صعبة ومعقدة جدا، وتستدعي الكثير من تقديم الإغراءات، وتبدأ العملية بمناقشة موضوعات عادية وتافهة مع الباحث أو الباحثة، ثم يعقب ذلك الحديث الذي فيه الفائدة، والذي يكون مدروسا بمنتهى الدقة وقائما على فهم المفاتيح النفسية لهذا الباحث أو العالم المستهدف.
ويؤكد دانييل غولدن أن “وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أنفقت سرّا ملايين الدولارات على المؤتمرات العلمية في العالم بهدف استدراج علماء نوويين إيرانيين”.
ويضيف غولدن أن “الشخصيات المشاركة في المؤتمرات ليست لديها أيّ فكرة أنها تشارك في ما يشبه أو يحاكي الواقع لكنها تدار من مكان بعيد”، لافتا إلى أن “غالبية الأكاديميين رفضوا أن يكونوا جزءا من مخطّط وكالة الاستخبارات”.
وذهب الصحافي البريطاني إلى حد التأكيد أن أهمية المؤتمر “باتت لا تقاس بعدد الفائزين بجائزة نوبل المشاركين فيه أو بعمداء أوكسفورد الذين يجذبهم بل بعدد الجواسيس المندسّين في ما بينهم”.
وأشار إلى أن “ضباط الاستخبارات الأميركية والأجنبية يتوافدون إلى المؤتمرات نظرا لكثرة الفرص مقارنة بالجامعات التي يمكن أن تضم أستاذا أو اثنين من المهتمين بالعمل لمصلحة الاستخبارات”.
|
وأكّد اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات المصرية السابق، ما ذهب إليه غولدن، مشيرا في تصريح لـه إلى أن جهاز الاستخبارات الأميركية تحديدا يلجأ إلى زرع العديد من الهيئات العلمية التي يكون دورها إقامة المسابقات والمناقشات العلمية في مختلف بلدان العالم لاصطياد عملائها.
ولفت إلى أن هذا الأمر يجري بصورة كبيرة داخل البلدان العربية، ونجحت الـ”سي. آي. إيه” بالفعل في تجنيد المئات من العلماء. وأشار اللواء محمد رشاد إلى أن تأثير تجنيد العلماء يُعد أكثر أثرا وفائدة لتحقيق هدفين، أولهما هدم القوة العلمية داخل تلك البلدان المُستهدفة، والثاني الحصول على خبايا العمل المؤسسي بداخل كل دولة.
وأوضح أن هناك رقابة أميركية على جميع الدوريات العلمية التي تصدر على مستوى العالم كله، حيث تتم قراءتها بعناية شديدة في مكاتب أجهزة الاستخبارات والتعرف على الموضوعات والأشخاص القائمين عليها، لاستدراج من يرونه مناسبا لهم لتجنيده، وقال إن في الولايات المتحدة بيئة تكنولوجية خصبة تم إعدادها لاستيعاب هؤلاء العلماء المُجندين داخل مراكز الأبحاث الأميركية.
تجنيد الفرائس العربية
في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وبناء على توجيهات مباشرة من الرئيس الأميركي جورج بوش نفسه، سعت الاستخبارات الأميركية إلى زيادة جهودها لتجنيد جواسيس من الدول العربية وكذلك من بين العرب المقيمين في الولايات المتحدة، ويتم ذلك من خلال إعلانات تنشر في المواقع الإلكترونية وكبرى الصحف العالمية بزعم طلب موظفين جدد (وحبذا لو كانوا باحثين) ويجيدون اللغة العربية.
وأكدت مصادر استخباراتية أميركية أن عددا كبيرا من علماء العالم الثالث انشقوا عن بلدانهم لفائدة الولايات المتحدة عن طريق المؤتمرات الأكاديمية، خاصة من إيران، وهنا يحكي أحد موظفي وكالة الـ”سي. آي. إيه” كيف أن واحدا من مهندسي أجهزة الطرد المركزي الإيرانية أراد الانشقاق عن بلده لكنه اشترط أن يواصل دراسته في معهد ماساشوستس الشهير (إم آي تي)، رغم أنه لم تكن لديه المؤهلات التي تسمح له بالانضمام، ومع ذلك ضغطت الـ”سي. آي. إيه” فتم قبوله، وها هو الآن حاصل على الدكتوراه بالفعل.
إلى جانب المؤتمرات العلمية، تلعب هجرة الأدمغة دورا مهما في استقطاب العلماء وتحويلهم إلى عملاء. ولجأت الاستخبارات الأميركية إلى هذه الطريقة منذ عقود، ولئن نجح الأمر في حالات كثيرة، غير أنه كان صعبا مع علماء إيران نظرا إلى أن طهران تغلق الباب على علمائها بإحكام، وبالتالي كان اللجوء إلى المؤتمرات الأكاديمية هو الحل، خاصة وأن العديدين من هؤلاء العلماء يريدون الفرار لكنهم لا يجدون الوسيلة لذلك.
وصرّح أحد عملاء الاستخبارات الأميركية قائلا “نحن لا نترك الأمور للصدفة، بل نتدخل في هذه المؤتمرات بطرق عديدة، وقد نستخدم شركات بعينها لتكون الواجهة لنا، وقد ننظم مؤتمرات وهمية لا يكون الهدف منها إلا الإيقاع بالفرائس المحتملة”. وذلك يعني أنه إذا لم تكن الاستخبارات الأميركية هي التي تمول المؤتمر وتقف وراءه، فإنها تكون حاضرة من خلال عيونها ومخبريها السريين، فإذا أعلن عن تنظيم مؤتمر ما -في باكستان مثلا- فإنها لا تتركه يمرّ مرور الكرام بل ترسل عملاءها يروحون ويجيئون في مكاتب وممرات وقاعات المؤتمر، بل وفي الفنادق التي يقيم بها العلماء المدعوون، والأكثر من هذا، وفق ما جاء في تحقيق صحيفة الغارديان، تراقب عيون الـ”سي آي إيه” الغرف من الداخل أيضا من خلال عملاء محليين لهم في الفنادق ومقار المؤتمرات، فإذا وقعت أعينهم على “الصيد المرتقب” تبدأ ماكينة التجنيد في العمل.
وكثيرا ما نصح مكتب التحقيقات الفيدرالية (إف. بي. آي) العلماء الأميركيين بتوخي الحذر، ويشرحون لهم أشهر طرق التجنيد التي تتم من خلال هذا السيناريو: قد يتلقى الباحث أو الباحثة دعوة لتقديم ورقة بحثية في مؤتمر ما، ثم عندما تُقدم الورقة فسيطلب منك منظم المؤتمر الاطلاع على أصل البحث على جهاز الكومبيوتر الشخصي لك، وساعتها سيتم زرع برنامج جاسوسي معين يتكفل بنقل كل الملفات التي تمتلكها دون علمك، إنها نفس اللعبة التي نلعبها معهم فلا تقعوا فيها.
|
بين الـ”سي آي إيه” والموساد
أشار خبراء إلى أن التعاون الأميركي الإسرائيلي في مجال تجنيد العلماء والجواسيس لم يعد سرا، بل ويذهب البعض من المحللين إلى أن البرنامجين (برنامج الـ”سي آي إيه” والموساد) يكمل أحدهما الآخر، خاصة فيما يتعلق بإيران والبلدان العربية، كما أنه لم يعد خافيا أن السفارات والقنصليات الأميركية بالعواصم العربية تعد مراكز للتجنيد، وبديهي أن هؤلاء العملاء يعملون تحت غطاء دبلوماسي بما يعنيه من تمتع بالحصانة وبتسهيلات أخرى كثيرة.
وأظهرت تسريبات عديدة لوثائق تم كشفها في السنوات الأخيرة أن مقار السفارات الأميركية في البعض من العواصم العربية تُستخدم كغطاء لهذا التجنيد، بممارسة أنشطة التجسس تحت لافتات تجارية أو إعلامية، أو من خلال منظمات وجمعيات المجتمع المدني التي تمولها هذه السفارات، بل والأكثر من هذا أن شباب الدول النامية الراغبين في الهجرة إلى أميركا ويتقدمون بطلبات للحصول على تأشيرات السفر يتم فحص بياناتهم جيدا باستخدام أحدث أساليب التحليل النفسي لمعرفة مدى استعدادهم للتجنيد.
وأكد رجل مخابرات أميركي سابق أن التشاور قائم دائما بين الجهازين (الموساد والـ”سي آي إيه”)، إذ أنه بعد اختيار هدف معين يتم إعداد مؤتمر في مؤسسة علمية مرموقة عبر وسيط يكون عادة رجل أعمال يتعهد ظاهريا بتغطية تكاليف المؤتمر.
والأمر، كما أكد العقيد حاتم صابر الخبير الأمني المصري لـ”العرب” لا يقتصر على العلماء فقط، بل يمتد إلى كل الشخصيات المهمة الأخرى في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والأمنية. وقال إن اختراق البلدان العربية من خلال تلك الشخصيات كان أحد العوامل في سقوط العديد من الدول العربية.
أخطاء تؤدي إلى كوارث
اعترف جين كوين، الذي عمل لصالح الـ”سي. آي. إيه” منذ عام 1976 وحتى 2006، أن الكثير من الأخطاء يمكن أن تقع فتسبب مصائب لا حدود لها، إذ يحدث أحيانا أن هؤلاء العملاء الذين يجوبون القاعات والأروقة يفوق عددهم عدد العلماء الحقيقيين مما يثير الانتباه.
ونقلت عنه الغارديان قوله “عندما ترسل عميلا إلى مؤتمر ما، فإنه ينبغي أن يكون على علم بما يدور هناك، وقادرا على المناقشة، حيث لا يمكن أن تبعث بمتخصص في علم التاريخ مثلا ليناقش في الفيزياء النووية أو فيزياء البلازما، فالعالم صغير، والمتخصصون الكبار في العلوم يعرفون أسماء بعضهم بعضا”.
ولتقليص هامش الخطأ تعمل وكالة الاستخبارات على تجنيد أستاذ متخصص لينجح في المهمة، وهذا ما يقوم به قسم الموارد الوطنية في الـ”سي آي إيه” وهو خدمة سرية تابعة للاستخبارات وتربط القسم علاقات عمل مع عدد من العلماء، فإذا كان هناك مؤتمر في باريس مثلا فسيكون من المستحسن الاتصال بأحد العلماء وإغراؤه بأن القسم سوف يتحمل عنه تكاليف السفر والإقامة، وهناك يمكن لهذا العالم مراقبة نظرائه من العلماء دون أن يثير الشك.
تعرف الـ”سي. آي. إيه” أن المعلومات التي سيقدمها العالم الذي تم تجنيده سوف تستخدم في صياغة السياسات، لكن أحيانا ما تكون معلومات خاطئة ومن ثم تكون السياسات مدمرة، ويمكن الإشارة هنا إلى القصة الشهيرة بين صدام حسين وجورج بوش، عندما أقنعت الـ”سي. آي. إيه” هذا الأخير بأن الرئيس العراقي يمتلك أسلحة دمار شامل، ثم اتضح أنها قصة ملفقة لأن الاستخبارات اعتمدت على مشاهدتها لعلماء العراق النوويين وهم يحضرون المؤتمرات العلمية في كل مكان فتصوروا خطأ أن صدام يرتّب لشيء ما.
وكتب عميل الـ”سي. آي. إيه” السابق المختص في مكافحة الإرهاب جون كيرياكو في مذكرة سنة 2009، يقول “ما لاحظه جواسيسنا ومخبرونا بالطبع هو أن العلماء العراقيين المختصين في الكيمياء والبيولوجيا، وبدرجة أقل، في الطاقة النووية، واصلوا الظهور في المنتديات الدولية. وكانوا يقدمون أوراقا بحثية ويستمعون إلى عروض أخرى، ويأخذون ملاحظات مهمة، ويعودون إلى الأردن حيث يمكنهم إرسال المعلومات إلى العراق”.
وحسب كيرياكو قد يكون بعض الجواسيس توصلوا إلى استنتاجات خاطئة لأنه تنقصهم شهائد متقدمة في الكيمياء والبيولوجيا والطاقة النووية. وفي غياب الخبرة، قد يسيء عملاء الاستخبارات فهم الموضوع المتناول أو ينكشف زيفهم. وفي مؤتمرات استضافتها الوكالة الدولية للطاقة النووية في فيينا حول مواضيع مثل النظائر الهيدرولوجية والطاقة الانصهارية، “ربما يكون هناك عدد من عملاء الاستخبارات يتجولون في الأروقة يفوق عدد العلماء الحقيقيين”.