الجزائر: جيش الدولة أم دولة الجيش؟
منذ أن احتل جيش الحدود البلد مع فجر الاستقلال بقوة السلاح بعدما انقلب على حكومة مدنية هي “حكومة الجمهورية الجزائرية المؤقتة” والجزائر تعيش تحت نظام منغلق لا يعير كبير اهتمام لمسألة التداول على الحكم التي لم تكن مدرجة في جدول أعماله على الإطلاق. ولم تكن المجموعة المهيمنة تنظر إلى المدنيين، ذوي الخبرات التقنية أو الثقافية، سوى من زاوية استغلالهم كواجهة لإخفاء الحكم العسكري.
ومنذ ذلك العهد فُرض مفهوم الشرعية الثورية وتم بناء الدولة الجزائرية على أساسه. فلا شرعية سياسية خارج رموز تلك الشرعية الثورية. وحدهم الذين شاركوا في ثورة التحرير الجزائرية يملكون حق تقلّد المسؤوليات السياسية وغيرها. وكل حكومة من الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الوقت كانت تزعم أنها تجسّد مطامح الشعب، وتتهم كل معارضة بأنها خائنة للثورة حتى وإن كان المعارضون من مفجري تلك الثورة ذاتها ومن زعمائها. وقد أقصي أو سجن أو هجّر أو تمت تصفية الكثير منهم. وليس هذا فحسب بل انتحل الكثيرون صفة البطولة الثورية ووصل إلى الظفر بمناصب ورتب عليا في الدولة والجيش. كلهم كانوا عساكر، من الرئيس أحمد بن بلة الذي كان رقيبا في الجيش الفرنسي والذي نصّبه العقيد هواري بومدين وجماعته ليطيح به بسرعة ويأخذ الحكم باسم التصحيح الثوري في العام 1965، مرورا بتنصيب عسكري آخر هو الشاذلي بن جديد، على رأس الدولة من طرف زملائه العسكر إثر وفاة بومدين سنة 1978.
وفي 1992 دفع بعض الجنرالات الشاذلي بن جديد نفسه إلى الاستقالة غصبا عنه. وجاؤوا بمحمد بوضياف من المغرب، والذي كان هو الآخر جنديا في صفوف الجيش الفرنسي في شبابه والذي اغتيل في ظروف غريبة بعد مرور 6 أشهر فقط من تنصيبه ووصوله إلى قصر المرادية وهو يخطب بدار الثقافة في عنابة، شرق الجزائر، وكان القاتل عسكريا. ثم ترأس المجلس الأعلى للدولة علي كافي الذي كان عقيدا في جيش التحرير. وكان المجلس مشكلا من خالد نزار، والجنرال علي هارون، عضو المجلس الوطني للثورة الجزائرية وتيجاني هدام وهو وزير سابق ومناضل في جبهة التحرير الوطني منذ 1954.
بات الجزائريون مقتنعين بأن المؤسسة العسكرية، على الأقل بقيادة أحمد قايد صالح، ولئن تنازلت بعض الشيء تحت ضغط ثورة الابتسامة، فهي غير مستعدة للتنازل الكلي عن وصايتها السياسية على الشعب الجزائري
وفي 1994 جاء دور جنرال آخر هو الرئيس ليامين زروال والذي استقال هروبا من مضايقات رفقائه العسكريين وتدخلاتهم في مهامه فوقع اختيار الجنرالات على عبدالعزيز بوتفليقة سنة 1999، وهو الوحيد الذي لم يكن عسكريا، ليس لأنه لم يرغب في ذلك وإنما تم رفضه من قبل الجيش المغربي بسبب قصر قامته، وقد مكث في الحكم 20 سنة ولم يغادر حتى طرده الجزائريون شر طردة رغم مساندة الجيش للعهدة الخامسة. وعين الجيش -احتراما لدستور لم يُحترم أبدا- عبدالقادر بن صالح كرئيس مؤقت للدولة، وبات واضحا أن رئاسة الأركان ممثلة في أحمد قايد صالح هي الرئيس الفعلي للجزائر منذ أن خلعت عبدالعزيز بوتفليقة مضطرة تحت ضغط الجزائريين منذ 22 فبراير.
ولا تزال مقولة محمد حربي مؤرخ الثورة الجزائرية صالحة إلى اليوم “الجزائر ليس بلدا يملك جيشا، وإنما الجيش هو الذي يحتل الدولة”. وذلك رغم شبه القطيعة مع ما كان سائدا قبل انتفاضة عام 1988، إذ جاءت في المادة 25 من دستور 1989 الجديد محاولة ولو محتشمة للتخفيف من تدخل الجيش “تنتظم الطاقة الدفاعية للأمة، ودعمها، وتطويرها، حول الجيش الوطني الشعبي. تتمثل المهمة الدائمة للجيش الوطني الشعبي في المحافظة على الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيادة الوطنية كما يضطلع بالدفاع عن وحدة البلاد، وسلامتها الترابية، وحماية مجالها البري والجوي، ومختلف مناطق أملاكها البحرية”.
لكن هذا التعريف الجديد لم يتجسد على أرض الواقع إلا شكليا، إذ حافظ الجيش على نشاطاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كما كانت مرسومة من ذي قبل في دستور 1963 والميثاق الوطني سنة 1976. ولم تغير المواد 25 و28 من دستور 1996 المعدل في سنوات 2002 و2008 و2016 من الأمر شيئا أمام قوة تدخل الجيش في الحياة السياسية كما يبدو جليا من قراءة افتتاحيات مجلة الجيش الصادرة كل شهر. ومع كل هذا فهل يمكن أن نصف نظام الحكم القائم في الجزائر منذ 57 سنة بأنه حكم عسكري؟
الحكم العسكري هو حينما يخطف العسكر السلطة عن طريق الانقلاب ويمارسونها بشكل مباشر. أما حينما يمارس الجيش نفوذه أو سيطرته على الشأن العام ولا يكون معنيا بشكل مباشر ودائم في العملية السياسية فذلك ليس حكما عسكريا كاملا. وهي حالة الجزائر ما عدا في فترة هواري بومدين الأولى وفترة الحرب ضد الإرهاب أو ما يسمى بالعشرية السوداء بين 1992 و1999. أما خارج ذلك، فقد مارس الجيش الجزائري وصاية على النشاط الحكومي ولكنه لم يحكم حكما مباشرا. وبهذا المعنى يمكن أن نطلق على النظام السياسي الجزائري بأنه نصف عسكري، على الرغم من أن أهم وأقوى مؤسساته على الإطلاق هي الجيش المكوّن تاريخيا من ثلاث مجموعات عسكرية هي، جيش الداخل الذي كان يتحمل عبء الثورة المسلحة، وجيش الهاربين من الجيش الفرنسي الملتحقين بالثورة، وجيش الحدود الذي كان مرابطا في المغرب وتونس أثناء الثورة.
وعلى عكس المرات السابقة فإن الشعب الجزائري هو الذي طالب بتنحية الرئيس هذه المرة ويطالب منذ ثلاثة أشهر عبر مسيرات احتجاجية متواصلة بالانتقال إلى نظام ديمقراطي وبدولة مدنية، ومن هنا يطرح سؤال لأول مرة هو: هل يمكن للجيش أن يلعب دورا في الانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي يديره مدنيون ثم ينسحب ويعود إلى مهامه الأصلية؟
الحكم العسكري هو حينما يخطف العسكر السلطة عن طريق الانقلاب ويمارسونها بشكل مباشر. أما حينما يمارس الجيش نفوذه أو سيطرته على الشأن العام ولا يكون معنيا بشكل مباشر ودائم في العملية السياسية فذلك ليس حكما عسكريا كاملا
لأسباب عديدة ومتشابكة، ينبغي على المرء أن يكون متفائلا جدا ليجيب بالإيجاب على هذا السؤال، إذ لا تزال المؤسسة العسكرية تعتبر نفسها وصية على الجزائر ولا تزال تبرّر ذلك بشرعية حربها التحريرية ضد فرنسا وباسترجاع السيادة الوطنية وبمكافحتها للإرهاب الإسلاموي طيلة عشرية كاملة والانتصار عليه وإنقاذ الجمهورية. وما عدا الإسلاميين الذين حرمهم الجيش الجزائري من إقامة ما يسمى “دولة إسلامية”، فهذا محل إجماع بين كل الجزائريين، باعتبار أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي بقيت متماسكة وضامنة للأمن وللوحدة الوطنية. ولكن هل يبقى هذا المبرّر يخول للجيش تنصيب الرؤساء وعزلهم إلى الأبد؟
في وقت يحاول فيه الجزائريون بانتفاضتهم السلمية إقامة دولة القانون الديمقراطية التي سيكون فيها الجيش مجرد مؤسسة من مؤسسات الجمهورية، يعتقد رئيس الأركان أحمد قايد صالح أن الجيش مؤسسة فوق الشعب وفوق الدولة كما يظهر من موقفه السلبي حيال الحراك الشعبي ومطالب الملايين من المتظاهرين الذين باتوا يعتقدون أنه هو خصمهم وهو من يحمي النظام كما بينته اللافتات والشعارات المرفوعة ضده في المسيرات الأخيرة.
وبات الجزائريون مقتنعين بأن المؤسسة العسكرية، على الأقل بقيادة أحمد قايد صالح، ولئن تنازلت بعض الشيء تحت ضغط ثورة الابتسامة، فهي غير مستعدة للتنازل الكلي عن وصايتها السياسية على الشعب الجزائري، ولن ترافق كل مطالبه لأنها غير قادرة بنيويا اليوم على التنازل عن امتيازاتها الخاصة نظرا لسيطرتها التاريخية على أغلب مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية وتشابك علاقاتها مع بعض الأحزاب السياسية كحزب جبهة التحرير الوطني وبعض رجال الأعمال، دون نسيان التأثيرات الخارجية بطبيعة الحال.
فلا الظروف مواتية ولا القيادة مناسبة ولا البسيكولوجيا مهيّأة لتحدث القطيعة ويعود الجيش الجزائري إلى ثكناته ومهامه كمؤسسة دستورية تحافظ على أمن الوطن من غير أن تمارس عليه أدنى أبوية.