التلاعب بالأمم والشعوب
في 9 أبريل 2003، يوم دخول القوات الأميركية إلى بغداد واحتلال العراق، خرج الدكتور محمد الدوري، آخر سفير وممثل لحكومة العراق الوطنية في الأمم المتحدة، من مبنى الأمم المتحدة يلحقه الصحافيون بأسئلتهم؛ وعند باب سيارته واجههم بجملته الشهيرة “انتهت اللعبة” (game over) وغادر من غير عودة، ودخل العراق في مرحلة التدمير المنظم منذ تلك الساعة.
في الذكرى الثانية عشرة للاحتلال الأميركي للعراق، وجه الإعلامي طاهر بركة في قناة العربية سؤاله إلى الدكتور الدوري قائلا “ذكرت جملتك الشهيرة ذلك اليوم وغادرت، واليوم نسألك ما هي تلك اللعبة التي أعلنت نهايتها؟ ومتى بدأت؟”.
ذكر الدوري بكلمات بسيطة أن اللعبة بدأت يوم تأميم وتحرير النفط العراقي من سيطرة الشركات الغربية (1972)، واللعبة هي بإيجاز عبارة عن منظومة من العمليات السياسية والمؤامرات المخابراتية اللاأخلاقية، قام بها الغرب ضد العراق منذ ذلك التاريخ بهدف عودة سيطرتهم على النفط العراقي (والعربي)، وها قد نجحت اللعبة أخيرا.
كلمات بسيطة ومختصرة تلخص تاريخا من الغدر والخداع، والأزمات التي تتالت، بما في ذلك خطة إنشاء قوات التدخل السريع الأميركية، التي بدأت في منتصف سبعينات القرن الماضي، بموجب توصيات مركز راند للدراسات حول أهمية تدريب القوات الأميركية على حروب الصحراء العربية بهدف احتلال منابع النفط (كان أول تدريبات هذه القوات في صحراء نيفادا الأميركية، وآخرها في الصحراء المصرية، قبل استخدامها مباشرة لأول مرة في حرب “عاصفة الصحراء” ضد العراق، يناير-فبراير 1991).
تحديث اللعبة الدولية
ما حدث للعراق لم يكن أمرا جديدا في الشأن الدولي، بل هو حلقة من حلقات لعبة الأمم، التي سبق التعرف على جزء يسير منها عبر الكاتب وضابط الاستخبارات الأميركي مايلز كوبلاند، وكتابه “لعبة الأمم، اللاأخلاقية في سياسات القوة” بما تضمن من سرد حول اللعبة الأميركية الغربية ضد مصر خلال فترة رئاسة جمال عبدالناصر (1952-1969).
تعد اللعبة ضد العراق الحلقة الأكثر تطورا في مسلسل لعبة الأمم، بحيث تم تحديث اللعبة القديمة بما يتناسب مع عصرنا هذا ذي القوة الأميركية المفرطة والمستفردة بالبطش العسكري والسياسي والتكنولوجي، دون رادع، بينما كانت اللعبة الأممية القديمة، التي بدأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تدور في فترة الحرب الباردة، ووجود ردع القطب السوفييتي الاشتراكي الذي كان يملك بجانب قوته المادية والنووية، قوة أيديولوجية تهز عرش المعسكر الرأسمالي برمته.
إضافة إلى ذلك، بدأت لعبة الأمم القديمة تلك خلال فترة كانت الولايات المتحدة في بداية تأسيسها لسياساتها الخارجية، وقوتها العسكرية الاستخباراتية، بعد تسلمها للتركة الاستعمارية في شرق المتوسط من القارة العجوز عموما، وبريطانيا العظمى خصوصا. فكانت مرحلة تجريب وتخبط ضرورية أسست القواعد الرئيسية للعبة.
ومع سبعينات القرن الماضي تسارعت التطورات في السياسات الخارجية الأميركية واللعبة الدولية مع التطور الرأسمالي في عناصر الإنتاج والاستهلاك، ثم الثورة التكنولوجية، التي كان لها جميعا دور رئيسي في تنميط عقول الأجيال المتعاقبة، وثقافاتها في مواجهة القوة الرأسمالية الإمبريالية المنبثقة.
ومع عقد التسعينات بدأت ثمار كل هذه العناصر تبدو واضحة في ضمور الأفكار الثورية، والروح الوطنية وفكر العدالة الاجتماعية القومية واليسارية، لصالح انتشار وامتداد الحركات الأصولية والعقائدية الدينية وأحزاب الإسلام السياسي بمختلف توجهاتها، التي اتفقت على استبدال الوطن بالدين، والهوية بالعقيدة، حتى تغوّلت هذه الحركات بدعم أطراف مختلفة، على رأسها الحكومات المحلية.
قديما كان هناك الكثير من التساؤلات في خواطر الكثير منا عمّن كان وراء العديد من الأزمات والحروب في الشرق الأوسط، والعديد من الخلافات العربية، والأحداث والانقلابات وحركات العنف والتطرف؛ كانت تساؤلات لا تلقى الإجابة، حيث “المؤرخون عندما يؤرخون الحوادث، يهملون الجواب على مثل هذه التساؤلات، ويمتنعون عن إلقاء الأضواء عليها لأنهم نادرا ما يعلمون عن خفاياها شيئا. وكذلك يهملها الدبلوماسيون في مذكراتهم مدفوعين باعتبارات الأمن تارة، وبالرغبة في عدم الإيقاع بين الحكومات وشعوبها تارة أخرى. وهكذا تبقى حقيقة الأحداث مدفونة لا تعرف منها خافية، ولا ينكشف للجماهير منها سر، إلا ما كان بمحض الصدفة….” (لعبة الأمم).
اليوم، لم تعد للصدفة أو أحاديث الدبلوماسيين وتقارير المؤرخين أهمية، حيث فهم العالم نظرية لعبة السياسات الدولية اللاأخلاقية التي جسدها مايلز كوبلاند في كتابه. وتطورت وسائل المعرفة. وبات من السهل قراءة الحدث وما وراءه للحصول على الإجابات المضمونة للكثير من التساؤلات، حتى صار للدراسات المستقبلية شأن وأهمية قصوى في رسم السياسات الإستراتيجية لدقة مضامينها.
هذه هي اللعبة (لعبة الأمم) التي تحدث عنها الدكتور محمد الدوري في ذلك اليوم، وتمكن اللاعبون من استكمالها بعد احتلال العراق بمنهجية وإستراتيجية تضمنان نجاح مشروع الاحتلال على المدى الطويل.
لعبة التحالفات بالباطن
بناء على مبدأ اللاأخلاقية في تلك اللعبة، يمكننا التأكيد على أن تدمير العراق، وتحويله من دولة ذات سيادة وجيش واقتصاد قويين، إلى دولة ممزقة منزوعة السيادة، فقيرة، دون جيش وطني، وموئل للإرهاب والفساد والميليشيات والعصابات المسلحة، كان في قمة أولويات وأهداف مشروع الاحتلال الأميركي-البريطاني.
لأجل ذلك، ولعدم ترك أي فرصة لفشل المشروع، خصوصا بعد تصاعد المأزق الأميركي أمام المقاومة العراقية، نفّذ الاحتلال الخطة البديلة، والتي تتلخص في استثمار الحقد الإيراني-الإسرائيلي على العرب، فتم علنا إهداء كل العراق وشعبه إلى إيران لتستبيحهما تدميرا وتقطيعا وقتلا وتشويها وترهيبا؛ وتم سرا إطلاق يد إسرائيل للعبث بما تبقى من تاريخ ومستقبل العراق.
إذن المخطط الأميركي-الإيراني لم يكن من نتائج اللحظة، بل كان ضمن إستراتيجية الاحتلال، والاتفاق المسبق؛ ولولا الدور الإيراني الدموي في تحطيم الشعب العراقي ومقاومته، لما تمكّنت شركات النفط الأميركية من الهيمنة على نفط العراق، من منابعه إلى موانئه. ولما نجح المحتل في تحويل العراق من أقوى وأغنى دولة نفطية إلى واحدة من أفقر دول العالم، حتى صار يستورد الغاز والمواد الغذائية من إيران. ولما نجح في تحويل هذا العراق من دولة متقدمة علميا، تزخر بالعلماء، خالية من الفساد، إلى دولة متخلفة، يتفشى فيها الجهل والأمية والأمراض وتحكمها الشعوذة، وتتصدر قائمة الدول الفاسدة. ومن دولة فريدة في خلوها من المخدرات والاتجار بالبشر، إلى دولة تعيش كل تفاصيل مؤامرة حرب الأفيون التي يلجأ لها الغرب دائما لتحطيم الشعوب الرافضة للاحتلال والاستعمار الغربي.
ولربما نحن اليوم بأمس الحاجة للتذكير بهذه اللعبة الخطيرة للحلف الأنجلوأميركي-الإيراني-الإسرائيلي. ورغم ما يشوب هذا الحلف من تجاذب وتنافر في المصالح إلا أنه يعد أهم أركان مشروع القرن الأميركي الجديد في المنطقة… وإنه لم، ولا، ولن، يتغير لصالح العرب.
ولن يتغير مادامت البوصلة العربية معطلة ولا تميّز اتجاهات المستقبل؛ ولن يتغير حتى لو قَبَلَ العرب إسرائيل عضوا في الجامعة العربية، أو تم التطبيع العربي الجماعي مع إسرائيل، سواء في معاهدة أمنية عربية إسرائيلية أو أي معاهدة أخرى؛ ولن يتغير مهما قدّم العرب من ضمانات وتضحيات لإسرائيل.
من يعتقد أن الولايات المتحدة ستدخل في حرب ضد إيران، بينما تتحالف مع إيران في العراق، فهو يعيش في وهم كبير (ونطلب من الله ألا تقع بلداننا الخليجية في كمين الزج بها في أتون حرب كارثية جديدة لن نجني منها سوى الدمار)؛ ومَن يعتقد عكس ذلك فهو غير ملم بالتاريخ، ولم يأخذ من الواقع العربي المدمر أي عبرة.
ولأولئك الذين يستهزئون بأهمية قراءة التاريخ وفهمه لتجنب إعادة تجاربه المريرة يقول ابن خلدون “إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق”، فالشعوب التي لا تقرأ التاريخ تبقى أبد الدهر تابعة ومُهدّدة، لا تعي من حقيقة الواقع إلا الظاهر، ولا تتمكن من بناء المستقبل.
ولأولئك الذين يعتقدون أن الإدارة الأميركية الحالية أكثر رأفة بالعرب من إدارة باراك أوباما، السابقة، نعيد ما قاله الزعيم البريطاني ونستون تشرشل عن نهج الولايات المتحدة أن “الأميركيين ينتهجون الخطوة الصحيحة بعد تجريب كل الخطوات والأساليب الخاطئة”، بمعنى أن الإستراتيجية الأميركية في ما يتعلق بالمنطقة ثابتة، والتغيير يتم فقط في أنماط التعامل وفقا لنوع الحدث وظروفه وطبيعته.
ولكي لا نقع ضحية سياسة الاستغفال، التي لطالما مارستها وتمارسها الإدارات الغربية ضد العرب، وقبل أن نكتشف بأننا أهدرنا المزيد من مصالحنا وثرواتنا المهدورة في “لعبة الأمم” الجديدة، لربما نحن بحاجة للتأكيد، وبقوة، على أن الغرب لم يكن، ولن يكون، حليفا للعرب، حكومات وشعوبا، ما لم يفهم العرب عقيدة هذه اللعبة وسبل مواجهتها، وما لم يفهم العرب حقيقة الدولة الأميركية العميقة، الصانعة للقرارات الإستراتيجية طويلة الأمد، والتي تتوارث تنفيذها الأجيال والإدارات الأميركية المتعاقبة، وبأدق الأدوات التي لا تستثني منها الدبلوماسية، ولا أولئك الدبلوماسيين المبعوثين إلى مناطقنا لتمرير الإملاءات التي عادة ما تكون عبارة عن مشورة لا تزيد على جملة، أو رأي أو ابتسامة.
هناك فاصل استراتيجي في تاريخ عالمنا العربي بين ما قبل احتلال العراق وما بعده؛ هذا الفاصل الذي يتجاهله العرب كي لا يعترفوا بخطيئتهم عندما سمحوا للجيوش الغازية بدخول المنطقة واحتلال العراق، كدولة إستراتيجية كانت على مدار التاريخ عاملا رئيسيا في التوازن الأمني والسياسي الاستراتيجي العربي القومي، سواء أمام جيوش الغزاة أو أمام الغزوات الفكرية والأيديولوجية التي كانت ولا تزال تستهدف الهوية العربية، منذ الحروب الصليبية حتى يومنا هذا.
عند مرحلة ما بعد العراق، انتهت اللعبة القديمة، وبدأت لعبة الأمم الجديدة بأدواتها وأهدافها، ومصطلحاتها. بدأت مرحلة: التغيير الجيو-استراتيجي، الحرب الاستباقية، الحرب الوقائية، الحرب بالوكالة، مبادرة الشراكة المجتمعية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، الإرهاب، الطائفية، الربيع العربي، الإسلام المعتدل، نظرية المؤامرة، وسائل التواصل، القوة الناعمة… وغيرها من مصطلحات نستقبلها في المنطقة دون عمق فكري أو وضوح سياسي، ونستخدمها كما نستخدم التكنولوجيا، بعيدا عن امتلاك القوة المعرفية التي تؤمّن لنا سبل صناعتها والحماية من مخاطرها الشرسة.
في خضم ذلك التغيير العميق في استراتيجيات اللعبة الدولية الجديدة، بدت واضحة مؤشرات تدني الوعي والفكر الاستراتيجيالعربي في مواجهتها، وأهم تلك المؤشرات كانالدور العربي الخطير الذي لم يتوقف عند تدمير العراق، بل استمر في المشاركةبتدمير دول أخرى من ليبيا إلى سوريا وغيرها من الأحداث الراهنة… والنموذج الساطع أمامنا اليوم هو الحدث السوري الذي دخله العرب بإرادتهم، وتوغلوا فيه، حتى فقدوا بوصلة الخروج، بل فقدوا إرادة الخروج منه،حتى بدا ذلك فاضحاً عند توقفهم المفاجئ عن فتح سفاراتهم في دمشق وتراجعهم عن التصريحات الانفتاحية التي استبشروا فيها ببداية دور جديد لتصحيح ذلك الوضع المأساوي في سوريا… متناسين أن الأمربيد مَن يقود تلك اللعبة اللعينة.
بوصلة العلاقات العربية
إننا في القرن الواحد والعشرين، نعيش عصرا بات فيه البيت الأبيض يمارس اللعبة بالعصا الغليظة، فلا يعرف غير لغة القوة والبطش والابتزاز والإملاءات سبيلا لتحقيق مصالحه. عصر باتت المصالح الأميركية أولا وبعدها الطوفان. عصر فيه المصالح الأميركية تستبيح قتل زعماء الدول علنا، بعد أن كانت تفعل ذلك عبر منظماتها السرية. وتستبيح تدمير الدول وتشريد وتجويع وتعذيب الشعوب علنا لتصبح عِبرة ووسيلة ترهيب أمام الدول الأخرى. عصر يتميز بالتهديد الأميركي العلني للدول والملوك والرؤساء والشعوب، بمصير العراق وقادته وشعبه، فصنعت من جريمتها في العراق نموذجا للترهيب والابتزاز. وبذلك النموذج، الذي صنعت نسخته الثانية في ليبيا، تعمل على مواجهة كل من تسوّل له نفسه معارضة القرار الأميركي مهما كان نوعه. عصر بات من أهم متطلباته إيجاد القوة الرادعة للبطش الأميركي العسكري والإرهابي والاقتصادي والاستخباراتي والتكنولوجي.
ويبدو واضحا أن هناك خللا في علاقاتنا العربية الدولية، وفي بوصلة اتجاهنا نحو الأقطاب العالمية… فالبوصلة التي توقف اتجاهها على علاقات نظام الحرب الباردة القديمة، غير قادرة على تصحيح اتجاهها نحو بناء قوة نوعية ذاتية داخلية وخارجية يهابها الغرب، وتوجهنا نحو قوة معرفية وعلمية وصناعية تحمينا، شعوبا وأنظمة، من الاستغلال والابتزاز الذي أصبح علنيا.
وأخيرا لن تستقيم علاقاتنا العربية مع الأمم الأخرى، بالندية وتبادل المصالح، ما لم نمتلك العلم والمعرفة والذكاء السياسي والبراغماتي الذي يضع مصلحة الكتلة العربية، القومية والقطرية، في قمة أولويات صانع القرار السياسي العربي؛ وما لم نملك أمر شأننا الاقتصادي والعلمي والتعليمي؛ وما لم نتمكن من استثمار ثروات وموارد المنطقة واقتصاداتها استثمارا رشيدا لصالح الأمن القومي العربي، في مشروع تنموي يصنع القوة العربية. وبخلاف ذلك فإن كل السياسات العربية الفردية لن تجلب للمنطقة ولكل بلاد العرب سوى الدمار الذي يتم تنفيذه بمنهجية عالية الدقة، ولقد ثبتت صحة هذه الشهادة منذ أحداث “ربيع″ 2011، واحتلال العراق 2003، وكارثة ما بعد 11 سبتمبر 2001. والشواهد لا تعد ولا تحصى.