لماذا يصمت «اليسار» العربيّ عن ثورة الجزائريين؟
انتبه كتاب وناشطون كثر إلى تغريدة للمغني والموسيقي اللبناني مارسيل خليفة يرحب فيها بثورة السودانيين مخاطبا إياهم بـ«أهلنا في الأقاصي في السودان الحبيب» مطالبا إياهم بأن «خذونا معكم إلى الحرية»، وإلى قيام المغنّي السوري سميح شقير بتقديم أغنية ترحّب بالثورة السودانية وتستخدم إيقاعات موسيقية منها، والمغنّيان محسوبان على اتجاهات يساريّة عربية.
احتفلت أغلب الأحزاب اليسارية العربية أيضاً (أو ما تبقى منها) بالحدث السودانيّ وهو احتفال لم يتناسب مع اهتمام مشابه بالحدث الجاري في الوقت نفسه في الجزائر، رغم أن في كلا البلدين مظاهرات احتجاج عارمة ترفض الاستبداد وتطالب بأنظمة ديمقراطية تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وتوقف التحكم الأمني ـ العسكري (والعائلي المافيوزي) في الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
كان اليسار العربيّ محرّكا كبيرا للسياسة العربية منذ ستينيات القرن الماضي، وحملت الأنظمة في مصر الناصرية، وسوريا والعراق البعثيين، واليمن الجمهوري والماركسي، وليبيا القذافية، وجبهة التحرير الوطني في الجزائر، شعارات الاشتراكية والتقدّم، فيما قامت الأحزاب الشيوعية «الرسميّة» في تلك الدول، بتطبيق سياسة الاتحاد السوفييتي المتحالفة مع تلك الأنظمة رغم حملات الاضطهاد والملاحقة والتضييق الذي عانت منه بعضها، فيما طوردت التنظيمات الشيوعية أو اليسارية الأخرى المنشقّة، ولم يبق منها غير أمثال «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، والحزب الشيوعي اللبناني، والجبهة الشعبية التونسية… والحزب الشيوعي السوداني، أما الأنظمة «اليسارية» العتيدة فتحوّلت إلى دكتاتوريات مطلقة متوحّشة يعتاش أغلبها على رخصة التمديد التي أعطتها مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 من قرار أمريكي ـ غربيّ بمحاربة «الإرهاب»، والذي أدرجت الأنظمة تحته الثورات الشعبية ضدها فيما قامت إسرائيل باستغلاله ضد نضال الفلسطينيين لتأسيس دولتهم.
يكشف حماس «اليسار» العربيّ الفائض نحو ثورة السودانيين عن واحدة من عيوب هذا اليسار الأساسية، بأشكاله الشيوعية والقومية، وهي النزعة الأيديولوجية البائسة التي ترى في الإسلاميين عدوّهم الأساسي، وبما أن السودانيين ثاروا على نظام محسوب على أولئك الإسلاميين فإن هذه الثورة «حلال»، أما في حالة الجزائريين فلا تبدو حدود الأيديولوجيا واضحة، ناهيك عن أن النظام الجزائري، في حسابات اليسار، هو نظام تقدّمي «معاد للإمبريالية» بدليل أنه قاد خلال «العشرية السوداء» حرب استئصال دموية ضد الإسلاميين، وكان الاتجاه الشيوعي الذي بقي من «حزب الطليعة الاشتراكية» الجزائري بين المهللين لفكرة الحرب الشاملة ضد الإسلاميين وتصفيتهم جذريا بكل الوسائل، وكان أولئك اليساريون أحد أكثر المروجين المتحمسين لتلك الحرب وخصوصا في أوروبا.
لا يهمّ في منظار الواقع الأيديولوجي لليساريين أن البشير، الذي جاء على ظهر الإسلاميين، انقلب عليهم وسجن زعيمهم حسن الترابي، وتبرأ منهم حين احتاج، ولا في أن النظام الجزائري ليس «نظاما تقدميا» بل شبكة من الوسطاء المرتبطين بمجموعات نافذة في رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش يقومون بنهب واحتكار الثروة الوطنية، وأنه نظام عاجز فقد القدرة على الاستمرار، وأن الانتصار للجماهير هناك أهم من تسجيل النقاط الأيديولوجية.
باستثناء بعض الأجنحة التي تجمع بين الطروحات اليسارية والديمقراطية، فإن اليسار العربيّ حكم على نفسه بالتهافت والتلاشي بدفاعه الخشبيّ عن الطغم الاستبدادية، وبالتمييز بينها على أسس أيديولوجية، موقعا نفسه في تناقضات لا تحصى جعلته موضعا للسخرية والاستنكار.