النظام الجزائري الجديد يبدأ تصفية حساباته مع باريس
تسود حالات من الترقب متفاوتة الشدة بين العواصم المؤثرة في القرار الجزائري، على خلفية الغموض الذي يلف الوضع في البلاد، مع غياب بوادر انفراج قريب للأزمة السياسية التي دخلت شهرها الثالث، ففيما تراقب واشنطن وبكين الوضع عن بعد، فإن باريس تتابع التطورات بشكل دقيق خاصة في الأسابيع التي تلت تنحي الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة عن السلطة.
شكل رفع الحروف الفرنسية من لافتات وزارة الدفاع الجزائرية، ومن معاملات إدارة شركة سوناطراك النفطية خلال الأسابيع الأخيرة، رسالة مشفرة من التيار المتصاعد في الجزائر، تجاه الهيمنة السياسية والثقافية الفرنسية، عبر المساس بأكبر دلائل الهيمنة المستشرية خلال العقدين الأخيرين، وهي اللغة الفرنسية التي تمثل لباريس أحد أشكال بسط النفوذ الثقافي على المستعمرات القديمة والمنطقة الفرانكفونية.
ويوحي نشر السفارة الفرنسية في الجزائر لبيان باللغة العربية في خطوة غير مسبوقة بأن العديد من الأوراق بصدد إعادة الترتيب بين البلدين.
ورفعت باريس درجة المتابعة الدقيقة للتطورات في الجزائر، خاصة في ظل الفتور والتذبذب اللذين يميزان علاقاتها مع الجزائر بسبب إفرازات الحراك الشعبي، وتوجهات غير معلنة من طرف قيادة المؤسسة العسكرية، تجاه النفوذ الفرنسي في الجزائر.
وكانت مداخلة النائب الجمهوري في الجمعية الفرنسية جون لاسال، خلال الأسابيع الأخيرة، حول تطور الأوضاع في الجزائر، وتأثيرها على مستقبل علاقات البلدين ومصالح فرنسا تحديدا، قد ألمحت إلى جزء من المخاوف الفرنسية.
وحذر لاسال حينها في تلميحات تضمنتها مساءلته للوزير الأول، من صعود جيل جديد من الضباط والجنرالات في المؤسسة العسكرية، بتكوين وتأطير قومي مركز، معاد للمصالح الفرنسية في الجزائر، لاسيما في الجوانب الثقافية والاقتصادية والسياسية.
وشدد في مداخلته، على أن تركيبة الجيش الجزائري، لم تعد مثل تلك المعتادة في أنظمة الرؤساء السابقين كأحمد بن بلة وهواري بومدين، وأن باريس مطالبة بالتركيز على تداعيات الوضع على الاهتمامات المشتركة، لاسيما تلك المتعلقة بالهجرة والجالية والجوار الجغرافي.
وذكرت مصادر دبلوماسية، بأن قيادة الإليزيه التي أطلقت خلية أزمة في مؤسسات الشؤون الخارجية والاستعلامات، استاءت من دور بعثتها الدبلوماسية في الجزائر، بسبب عدم استشرافها للحراك الشعبي، وتصاعد مطالبه الراديكالية بمرور الأسابيع.
ودخلت علاقات البلدين أزمة دبلوماسية غير معلنة بعد تنحي الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، عن منصبه، وصعود خطاب سياسي ودبلوماسي معاد للفرنسيين لدى قوى الحراك الشعبي والمؤسسة العسكرية، خاصة بعد إشارة مصادر إعلامية محسوبة على الجيش، إلى مشاركة جهة استخباراتية فرنسية في ما بات يعرف بـ”المؤامرة” التي خططت لها وجوه نظام بوتفليقة، لإجهاض الحراك والانقلاب على قيادة الجيش.
وإذ يسود إجماع في الجزائر على رفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية، فإن باريس مثلت الجهة الأكثر رفضا واستهدافا من طرف الحراك الشعبي، على خلفية الدعم الذي كانت تسديه باريس إلى نظام الرئيس السابق بوتفليقة، خاصة منذ العام 2013.
وتفاعلت فرنسا بشكل لافت وإيجابي مع المبادرات السياسية الأولى، التي أطلقها بوتفليقة خلال الأسابيع الأولى لانطلاق الحراك الشعبي، حيث كانت تشجع في كل مرة المقاربات التي كانت تستهدف في بداية الأمر الذهاب إلى ولاية خامسة من عام واحد، ثم مع تمديد الولاية الرابعة، كما دعمت اقتراح الندوة السياسية التي استقدمت لها السلطة، الدبلوماسيين لخضر الإبراهيمي ورمطان لعمامرة، لتسويقها في العواصم الغربية.
وإذ اقتنصت باريس فرصتها في الجزائر في بحر هذا الأسبوع، عبر إبرام شركة طوطال النفطية لصفقة شراء أناداركو التي تمتلك فيها الجزائر أكثر من نصف الأسهم بواسطة شركة سوناطراك، وتستحوذ على ربع النشاط النفطي في البلاد، ولها نشاط مماثل في عموم القارة الأفريقية، فإن مشروعها البيتروكيمياوي في وهران، والمقدر بنحو مليار دولار على وشك التعثر بسبب ارتباك العلاقات السياسية، كما أن بنك الجزائر عطل تحويلا بنكيا للشركة يقدر بنحو 80 مليون دولار لأسباب غير معلنة.
كما سحبت الجزائر من فرنسا صفقة ترميم حي القصبة العتيق بغلاف مالي يقارب الثلاثة مليارات دولار.
وفند السفير الفرنسي كزافيي دريانكور، بالعاصمة الجزائرية، عقب تقديم أوراق اعتماده لرئيس الدولة عبدالقادر بن صالح “وجود إرادة لدى بلاده للتدخل في الشؤون الداخلية للجزائر، وأن فرنسا تتابع بكثير من الاحترام الوضع في الجزائر”.
وأضاف “فرنسا تتابع مثل بلدان أوروبية أخرى ما يحدث في الجزائر بكثير من الاحترام دون إصدار أحكام ولا إرادة لها بالتدخل في الشأن الجزائري”، وأنه واعِ بأنه يتواجد في وضع ووقت جد خاص من تاريخ الجزائر.
وتابع “الجزائر بلد كبير وشاسع ونكن له كل الإعجاب وأملي أن نطور سويا العلاقات في كل الميادين بين الحكومتين، وخاصة بين الشعبين الفرنسي والجزائري الصديقين، وأن الشعب الفرنسي منبهر بالنضج السياسي للشعب الجزائري الأبي”.
ويرى متابعون لتطورات الوضع الجزائري، أن باريس تنظر بعين القلق لما بات يعرف بصعود جيل الضباط الجدد المعادين للنفوذ الفرنسي، وأنها غير مرتاحة لانفراد قائد الأركان الجنرال أحمد قايد صالح، بسلطة القرار في بلد ظل يمثل قاعدتها الخلفية في شمال أفريقيا.
ويضيف هؤلاء، أن توجه قيادة الجيش لتعزيز علاقاتها التاريخية مع روسيا والصين، يثير مخاوف الفرنسيين من ضياع مصالحهم في الجزائر مستقبلا، بمجيء قيادة سياسية لا تخرج عن التوجهات الجديدة للعسكر.
وتعد باريس الشريك الثاني للبلاد بتعاملات تقدر بـ30 مليار دولار، في حين تستحوذ وزارة الدفاع وحدها على موازنة سنوية تفوق العشرة مليارات دولار، تدخل فيها صفقات تسليح مغرية من روسيا والصين.