أمازيغ تونس.. انتهى عصر المظلوميات
يدخل أمازيغ تونس الحياة السياسية عبر تأسيس أول حزب أمازيغي في البلاد يحمل اسم “أكال”، وينحدر أغلب مؤسسي هذا الحزب ومنتسبيه من فئة الشباب والطلبة، ولا يختلف في مطالبه الاقتصادية والاجتماعية عن باقي أحزاب المعارضة، بما في ذلك النهوض بمناطق سكن الأمازيغ المهمشة. ويرى مؤسسو الحزب أن الوقت قد حان من أجل رد الاعتبار للغة والهوية الأمازيغية.
في إطار التحولات الدراماتيكية التي تشهدها المجتمعات على مختلف بناها الأساسية، صار خيط رفيع وحاد يفصل بين النشاط الحقوقي من داخل المجتمع المدني، خصوصا ذاك الذي يتضمن الدفاع عن هوية ثقافية بعينها، بغية حمايتها من النسيان والاندثار، وبين العمل السياسي الذي يتخذ طابعا حزبيا صريحا ومباشرا، يتسلح ببرنامج شامل، يدخل الانتخابات من بابها العريض، وينافس لأجل الفوز بمقاعد برلمانية وحقائب وزارية بل وأبعد من ذلك.. لم لا؟
هذا ما بات يُطرح الآن على حركة “أكال” الأمازيغية التونسية بعد إعلان تحولها من الطابع الجمعياتي ذي النشاط الثقافي البحت، إلى حزب سياسي ينتظر منحه الترخيص الرسمي في الفترة القليلة المقبلة، خصوصا إذا علمنا بأن “رد الاعتبار إلى الأمازيغية في تونس”، أصبح مطلبا واسع الانتشار في مختلف المناطق، فلا يكاد يخلو تجمهر شعبي أو اعتصام سلمي بعد 2011 من رفع راية هذه الحركة التي يقول أبناؤها إنهم عانوا من التجاهل والتهميش لعقود طويلة، وهم السكان الأصليون للبلاد.
ويقول رئيس حزب “أكال” الناشئ سمير النفزي، في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية، “تعددت الجمعيات وأردنا تنويع التجربة بأن ننتقل من مرحلة الفولكلور الثقافي إلى العمل السياسي، ومن المطالبة بالحقوق إلى تحمل المسؤولية”. ويضيف النفزي، أستاذ القانون الدولي، ومرشح حركته للانتخابات الرئاسية المقبلة بأن الوقت حان من أجل “رد الاعتبار للغة والهوية الأمازيغية للسكان الأصليين في البلاد، والتي ظلت مهمشة طيلة عقود طويلة”.
هل تنهي هذه الخطوة التي رحب بها جميع أمازيغ تونس ودول الجوار، وباركتها كذلك أحزاب علمانية ومدنية، حالة الغبن والمظلومية التي اشتكى منها حوالي نصف مليون من الناطقين بهذه اللغة التي قمعت منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة بذريعة الحفاظ على النسيج المجتمعي من التمزق أم إنها مجرد تهويمات سياسية، لا تسمن ولا تغني من جوع، أمام استحقاقات أخرى ينتظرها المجتمع التونسي بمعزل عن إعلان انتماءات فئوية ومناطقية وعرقية، من شأنها أن تضيّع البوصلة، وتفتح التأويلات نحو المزيد من اللغط في الشارع وتراشق الاتهامات بتنفيذ الأجندات الخارجية في الشارع السياسي؟
المؤسسون والمناصرون لحزب “أكال” الأمازيغي يعلمون أن أي حزب، ومهما كانت مشروعية فكرة وجوده، لا يمكنه خوض غمار التنافس مع أحزاب ذات امتدادات أفقية وعمودية، دون برنامج اقتصادي وسياسي واضح المعالم
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التحقق في “مجيء المولود قبل تسميته والتفكير في مستقبله”، ذلك أن بندا واضحا وصريحا من دستور البلاد يمنع إنشاء حزب على أساس ديني أو عرقي أو مناطقي، وهو أمر سارعت للإجابة علية حركة “أكال” الأمازيغية، ساعية لقطع الطريق أمام خصومها المحتملين، والمحتمين خلف صفحات الدستور الجديد بالقول “إن الحزب لا يحمل مطالب الأمازيغ فقط، بل سيدافع عن مطالب وحقوق كل التونسيين، سواء الناطقين باللغة الأمازيغية أو العربية، ويحرص على توحيدهم”.
هذا التصريح، ومهما حمل من رسائل إيجابية ونوايا وطنية صادقة، إلا أن الدستور التونسي الجديد ـ ورغم الفصول التقدمية المشرقة التي تضمنها، تجاهل غالبية مكونات المجتمع الدينية والعرقية مكتفيا بعبارة “عروبة تونس وإسلامها” في اختصار تعسفي لهوية البلاد.
يعلم المؤسسون والمناصرون والمتحمسون لحزب “أكال” الأمازيغي أن أي حزب، ومهما كانت مشروعية فكرة وجوده من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، لا يمكن له خوض مضمار التنافس مع أحزاب ذات امتدادات أفقية وعمودية، دون برنامج اقتصادي وسياسي واضح المعالم.. ما الذي يهم الناس غير المسألة المعيشية؟ ومهما كانت حماسة الأمين العام للحزب المذكور فادي منصري، البالغ من العمر 24عاما (أصغر أمين عام لحزب في تونس)، والذي قال إنه سيعمل من أجل الضغط على السلطات للاعتراف باللغة الأمازيغية، كما يهدف إلى توحيد منطقة شمال أفريقيا في إطار فيدرالي، فإنه اكتفى بإشارات عامة من قبيل “توحيد المنطقة سيمكّن من خلق قوة اقتصادية وسياسية كبرى، وهو هدفنا على المدى البعيد”.
وفي ربط دلالي بين تسمية الحزب من الناحية اللغوية الأنثروبولوجية، والأفق الاقتصادي الذي يتحرك فيه مؤسسو “أكال” ويستوحون برنامجهم منه، وضّح منصري، في لقاء إذاعي، أن اختيار اسم الحزب ليس عبثيا، معبّرا أن كلمة “أكال” باللّغة الأمازيغية تعني “الأرض” التي تعتبر بالنسبة لهم السيادة الوطنية، وتعني لمؤسسي هذا الحزب “الثروات المنهوبة، الملح، الغاز الطبيعي والبترول وغيرها من الملفات الشائكة في البلاد”، وهذه هي القضايا التي سيدافع عنها الحزب بقوة حين يعلن عن برنامجه لاحقا في الانتخابات التشريعية التي يحضر لها الحزب في ما نسبته 85 بالمئة من محافظات الجمهورية.
ويرى منتقدون أن هذا الكلام لا يختلف كثيرا عن تلك النزعة الشعبوية التي طغت على بعض المطالب الجماهيرية العشوائية، السنة الماضية، ورفعت شعارات كانت محل تندّر عام، على شاكلة “وينو (أين) الملح؟”، “وينو البترول”، كما أنها تخفي نزعة مناطقية ارتبطت بطبيعة احتجاجات أهالي الجنوب التونسي (الأمازيغ يشكلون نسبة كبيرة منهم)، والذين كانوا ولا يزالون أقل حظا في التنمية.
هذا إذا وضعنا في عين الاعتبار أن رئيس الحزب سمير النفزي، الناشط الحقوقي المعروف بدفاعه عن الأقليات الدينية والعرقية، محسوب على العائلة اليسارية في تونس منذ نضاله في صفوف الحركة الطلابية، وبالتالي فإنه لن يحيد عن برنامج اليسار الحالي المتخبط في أزمة شعارات لم يستوعبها الواقع المأزوم في تونس، فظلت حبيسة التنديدات في المسيرات الاحتجاجية دون تقديم الحلول.
لا بد من الإشارة إلى أن أمازيغ تونس ليسوا خليطا متجانسا وجسما واحدا يمكن له أن يشكل تعبيرة صلبة وموحدة داخل المجتمع، وكذلك أروقة الحكومة والبرلمان في حال تمكنهم من مسؤوليات مؤثرة، فهم مثل باقي فئات المجتمع، ينقسمون بين طبقاته، كل حسب موقعه ومصلحته، وخصوصيتهم الحميدة تتمثل في الجدية وحب العمل، والإيجابية في التعامل مع واقعهم والسعي لتحسينه.
لا يختلف أمازيغ تونس عن أمثالهم في الجزائر والمغرب وليبيا من حيث التموقع الاقتصادي والسياسي يمينا ويسارا. أما بالنسبة لحركة “أكال” فينحدر أغلب مؤسسيها ومنتسبيها من فئة الشباب والطلبة، ورئيس الحزب، نفسه، طالب دكتوراه في العلوم الجنائية باليابان، ولا يختلف الحزب في مطالبه الاقتصادية والاجتماعية عن باقي أحزاب المعارضة، بما في ذلك النهوض بمناطق الأمازيغ المهمشة.
وبناء على ما تقدم فلا إنجازات ولا معجزات ستحدث على الصعيد الاقتصادي في حال تقدمهم في الانتخابات المقبلة، غير أن الإقبال للتصويت لهم سوف يكون مميزا كما يتوقع المراقبون، ذلك أن جميع التونسيين في حاجة إلى الجديد، وحسب أمازيغ تونس فخرا أنهم أقبلوا على هذه الخطوة التي لا بد منها، وظلت مؤجلة بسبب ثقافة التهميش والتجاهل فلفتوا إليهم أنظار العالم، وكذلك شركاءهم في الوطن، إلى عمق إسهامهم في ثقافة هذه البلاد بعيدا عن التعصب وإلغاء الآخر في عصر لا يقبل بغير التنوع والتعايش.
إنه لمن المؤسف أن يحرم في المدرسة طفل من لغته الأم وفي بلده الأم، وهو ما أكده زعيم الحزب سمير النفزي، في مقابلة صحافية بقوله، إنه وعلى الرغم من أن هناك نحو 5 بالمئة من التونسيين يتحدثون اللغة الأمازيغية إلا أن السلطات ما زالت لا تعترف بالأمازيغية بشكل رسمي.
وقال النفزي “من خلال زياراتنا للعديد من المناطق التونسية الناطقة باللغة الأمازيغية، لاحظنا أن الكثير من الأطفال يواجهون صعوبات كبرى في استيعاب الدروس باللغة العربية”، مضيفا “نطالب بإجراءات جدية لجعل اللغة الأمازيغية لغة رسمية وسنخوض جملة من التحركات التي ستفاجئ الرأي العام لتحقيق هذا الهدف”.