الإعلام الفرنسي ضد السترات الصفر

ما زال الإعلام الفرنسي ومنذ ثلاثة وعشرين أسبوعا يتناول احتجاجات السترات الصفر بطريقة منحازة وغير متوازنة فقد وصفت التظاهرات منذ البداية بالعنف والمتظاهرين بالأميين ومن ثم بالعنصرية إلى الوصول بعد عدة أسابيع، ولعدم توقف وتيرة التظاهرات إلى نعتهم «بأكبر الكبائر» ألا وهي تهمة معاداة السامية.

عنف لفظي

لكن سرعان ما تجاهل المتظاهرون هذه التهم وردوا أنهم هبطوا للشارع من أجل الحصول على مطالبهم وليس لشتم الآخرين لكن ذلك لم يمنع وسائل الإعلام وغالبية الصحافيين والمتخصصين والمدعوين من القنوات المختلفة ومحطات الراديو ممن يعمل في الإعلام الحكومي والمملوك من عدد من الأغنياء المحاط بهم الرئيس الفرنسي من رفع نبرة العنف اللفظي إزاء السترات الصفر حتى أن أحد أشهر الاقتصاديين ورئيس قسم الاجتماع في مركز البحوث السيد فرديريك لوردون قد وصف تعامل الإعلام مع المتظاهرين بخطاب الحقد والاحتقار الاجتماعي والطبقي والعنصري.
شكل الأسبوعان الأخيران خاصة عنفا لفظيا غير مسبوق تجاه التظاهرات عبر تويتر وعبر تعليقات للصحافيين أنفسهم حول هتاف نادى به بعض المتظاهرين يخاطبون رجال الشرطة قائلين لهم : انتحروا وقد تلقفت أجهزة الإعلام «والحرس الإعلامي « هذا الهتاف لتتناوله بشكل هستيري ابتداء من راديو «فرانس انفو» إلى القنوات الأخرى ومدعويها إلى الصحافيين وبالأخص إلى تصريح وزير التربية السابق «لوك فيري «الذي قال: هناك جيش فماذا ينتظر لإطلاق النار».

تنسيقيات للمحامين

وغرد صحافي ينعت السترات الصفر بالدود لكن قوة ردود الأفعال وغضب الفرنسيين جعله يمسحها ويقدم اعتذاره معللا ذلك بمشاعر غضب نالت منه دفعته لكتابة جملته تلك، أما الأكثر عنفا فقد صدر عن صحافي معروف جدا ومن المقربين للطبقة السياسية عبر برنامج سياسي واسع المشاهدة يحرض فيه الحكومة على حبس المتظاهرين في الملاعب ( في إشارة إلى اعتقال الجنرال الشيلي بينوشيه الذي أسقط سلفادور اليندي عام 1975 للمناهضين للطغمة العسكرية في الملاعب ) رغم ما لهذا الإجراء، يقول الصحافي من ارتباط بذكرى ! في المقابل لم يتعامل هذا الإعلام في أي لحظة منذ بدء التظاهرات تعاملا متوازنا مع العنف البوليسي الذي تزايد أسبوعا بعد أسبوع ليأخذ طابعا قمعيا لا يقوم به أي بوليس أوروبي آخر، كما ذكر الصحافي المصور غاسبار كلانز الذي أوقف بتهمة التجمع مع آخرين وتم منعه من تغطية أيام السبت والأول من مايو المصادف عيد العمال العالمي، في مقابلة لصحفية «ريبورتر» علما أن قلة من الإعلاميين وقفوا مع هذا الصحافي الذي تخلت عنه نقابته نفسها ومنظمة «مراسلون بلا حدود» التي تتدخل حسب أهوائها السياسية كما لم يقم الإعلام بالتحدث عن القضايا الكثيرة التي رفعت ضد أفراد الشرطة من المتظاهرين المصابين ممن فقأت عينه أو فقد يده أو ذراعه، وهم كثر إذ وصلت اعداد الجرحى إلى 2800بينهم 180 حالة خطرة ووفاة ثمانية أشخاص.
ولم يتم الحديث عن رفض مراكز الشرطة لتسجيلها وهو أمر يتعارض مع القانون الفرنسي، كما لم يتحدث الإعلام عن طلب الشرطة من المستشفيات أسماء المصابين من السترات الصفر ووضعها في قوائم (أس) التي تستخدمها وزارة الداخلية لمكافحة الإرهاب، وصمت الإعلام عن أقوال مسيئة بدرت من نقابي يتكلم مع مصاب بعينه قوله : إنك تستحق ما جرى لك – وبينما تمت المبالغة والتصعيد من قبل الإعلام حول هتاف «أيها الشرطة انتحروا» لم تذكر القنوات ولا الإذاعات هتافات أخرى تقول للشرطة «التحقوا بنا ».
واقتصر نشر مثل هذه الحقائق التي تحدث أيام السبت في التظاهرات على صحيفة «الكنار اونشينيه» و«ليبراسيون» وتم ذلك فقـط في الأسـبوعين الأخـيرين.
وذلك ما دعا عددا من المحامين والمحاميات للدفاع عن السترات الصفر بتأسيس تنسيقيات تترافع عنهم في المحاكم وتتابع القضايا المرفوعة ضد الشرطة ولعل ذلك هو واحد من أهم مواقف الشعب الفرنسي لدعم تظاهرات هذه الطبقة التي تشكل كما صرح اقتصادي فرنسي ستة عشر مليون مواطن يدعمها كما في آخر الاستطلاعات 88 في المئة من الشعب الفرنسي الغاضب على معالجة الرئيس ماكرون وحكومته لمطالب هذه الشريحة المهمة وعدم الاستجابة وسماع حاجاتها بل إنه في مؤتمره قبل أيام أدعى أنه وحكومته على الطريق الصحيح رغم أن ما يقترحه كلها إجراءات «صغيرة ومحدودة جدا» غير موجهة للمتظاهرين عموما.

الجنرال ديغول

في السبت الثالث والعشرين توجه عدد كبير من السترات الصفر إلى مقرات الإعلام الفرنسي الحكومي والخاص معبرين عن غضبهم للتعامل الإعلامي المنحاز وتشويه صورتهم والصمت على العنف بحقهم وعدم إظهار الحقائق حول الأرقام الحقيقية للتظاهرات وتصويرها بشكل جزئي يخدم خطاب الحكومة ضدهم.
أكثر من مختص فرنسي ومنهم إعلاميون كبار يرى في هذه الاحتجاجات بداية لمرحلة جديدة في تاريخ فرنسا وهي كذلك للعارف بهذا التاريخ احتجاجات السترات الصفر تشبه كثيرا تظاهرات واضرابات عام 1968 أبان حكم الجنرال ديغول، فبينما رآها هو في البدء، مجرد تظاهرات طلابية مشاكسة للسلطة ورفض الاستجابة لمطالب العمال المضربين ومعهم الطلاب، كانت التظاهرات الصاخبة التي شلت الحياة في باريس لحظة تاريخية أنفجرت لوصول حقبة زمنية إلى نهاياتها، ولم يعد جزء كبير من الشعب الفرنسي يتقبل فيها انغلاق المجتمع ولا نظام الحكم الذي أستهلك مداه ولا النظام الاقتصادي وهو ما يحدث اليوم بدليل هذا الاستطلاع الذي نشر بعد المؤتمر الذي عقده ماكرون قبل أيام عقب الاستفتاء الوطني اذ اعتبر 63 في المئة من الفرنسيين أنه غير مقتنع بسياسته وكلامه، كما أظهر استطلاع اخر ان 89 في المئة من الشعب الفرنسي يعتقد أن فرنسا أصبحت دولة بوليسية.
إن مثل هذا الإجماع الشعبي حول رفض سياسة الرئيس والتذمر من الوضع البوليسي ينذر ويترجم الرغبة الواسعة في التغيير السياسي والاقتصادي ودعم التظاهرات الجارية منذ أربعة وعشرين أسبوعا، تغيير آت لا محال.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: