صيام رمضان عند المغاربة يتأرجح بين العبادة والاستهلاك

شهر واحد وقبلة واحدة وطقوس تعبدية موحدة مع بعض التمايز الذي يسم طقوس صيام شهر رمضان في الدول الإسلامية وكذلك داخل العائلات المسلمة بالبلد الواحد. أجواء رمضان في المغرب تعبر عن حضارة وتاريخ بلد يأبى أن يفارق تراثه، الذي يجمع بين حضارة البحر المتوسط وما ألفه من ثقافات قادمة من الشرق والجنوب امتزجت بالموروث الحضاري المحلي.

 يرتبط شهر رمضان عند المغاربة بطقوس العبادة وإقبالهم الكبير على المساجد وصلاة التراويح جماعة، ولهذا ترى الناس في اليوم الأول يتساءلون عن أفضل قارئ في مدينتهم فيقصدون المسجد الذي يصلي فيه لأجل الاستمتاع بصوته الشجي. فأينما تحل بالمملكة المغربية تجد المساجد عامرة تلتئم فيها الدروس الرمضانية والأنشطة الدينية مع تنظيم مسابقات للمنافسة بين طلبة من مختلف الأعمار في حفظ وتجويد القرآن الكريم.

وهناك عادة مغربية خالصة سنها السلف للعناية بكتاب الله وتتمثل في قراءة حزبين من القرآن يوميا في كافة المساجد؛ الأول بعد صلاة الصبح والثاني بعد صلاة المغرب في الأيام العادية، ويتغير التوقيت مع حلول أول أيام رمضان إلى ما بعد صلاة العصر في كافة مساجد المملكة دون استثناء، حيث يجتمع القراء في حلقة دائرية ويفتتح الإمام القراءة وينهيها بدعاء يحفظه الجميع.

وبعد الإفطار تكون وجهة البعض إلى المساجد لأداء صلاة العشاء والتراويح التي تكتسي أهمية بالغة لدى المغاربة، ومثلما توجد هذه الفئة من المجتمع المغربي التي تزدحم بها المساجد في هذا الشهر يوجد أيضا من تنفتح شهيته أكثر لمتابعة البرامج التلفزيونية بشراهة وشغف من سهرات وفكاهات وأعمال درامية.

وبعد صلاة التراويح تسنح للعائلات والأصدقاء فرصة التحرر من الطقوس التعبدية والتوجه نحو الحدائق أو المقاهي أو بعض المتنزهات للسهر، في حين ينطلق البعض نحو منازل الأقرباء للاستئناس بجلسات عائلية وارتشاف كؤوس الشاي مع الحلويات والأكلات الخفيفة الخاصة برمضان.

ويقول الطبيب والمحلل النفساني، جواد مبروكي، إن أداء صلاة التراويح أصبح عادة اجتماعية، لم نتعود عليها في سنوات الستينات والسبعينات، خصوصا وأننا نرى اليوم إقبال النساء والشباب والفتيات على القيام بصلاة التراويح مرتدين الألبسة التقليدية.

جواد مبروكي: شهر رمضان أصبح مخصصا للاحتفالات وممارسة التقاليد الاجتماعية ويتمثل ذلك في الاستعدادات التي تسبقه
جواد مبروكي: شهر رمضان أصبح مخصصا للاحتفالات وممارسة التقاليد الاجتماعية ويتمثل ذلك في الاستعدادات التي تسبقه

ويعتبر مبروكي أن شهر رمضان أصبح شهرا للاحتفالات وممارسة التقاليد الاجتماعية، ويتمثل ذلك في الاستعدادات التي نراها قبل أسابيع من حلول رمضان، مثل شراء “الجلابيب التقليدية” من قبل النساء والرجال على حدّ سواء، وإعداد الحلويات التقليدية، وحتى على مستوى إعداد البرامج الترفيهية في جميع المدن المغربية تحت اسم “ليالي رمضان” والأمسيات الفنية والكوميدية.

وبمناسبة حلول رمضان يتم تشجيع الأطفال على الصيام لتعويدهم على أداء هذه الفريضة وذلك بتحفيزهم بالجوائز، وهناك بعض الأطفال لا يقوون على استكمال اليوم خصوصا في أيام الصيف الطويلة والمرهقة فيتم الاكتفاء بنصف اليوم فقط.

وبسبب التحولات القيمية التي طرأت على سلوكيات المغاربة في السنوات الأخيرة أصبحنا نلاحظ أن نمط الاستهلاك طغى على الطابع الروحاني في هذا الشهر ليسود التركيز الكبير على الأطباق والأصناف المتنوعة والتنافس في اقتناء المأكولات بشكل خاص، إضافة إلى نقص الزيارات والاجتماعات بين الأهل والأصدقاء والتي لم تعد كما كانت من قبل، وأيضا غياب تبادل المأكولات بين الجيران.

وللمطبخ المغربي ثقافة وعادات خاصة بمناسبة شهر رمضان، ومن بين الأكلات الرئيسية على المائدة المغربية “الحريرة”، وهي حساء مغربي بمكونات عديدة مغذية منها المواد الغنية بالمعادن والفيتامينات والسكريات التي تمد الجسم بالطاقة التي نحتاجها خلال فترة الصوم. وشربة الحريرة لها تاريخ عريق وتدخل ضمن ثقافة المطبخ الذي تتوارثه العائلات جيلا عن جيل مع بعض التعديلات دون المساس بجوهرها كطبق رسمي في رمضان رغم اختلاف مكوناتها المغذية من منطقة لأخرى.

وقبل الإعلان عن اليوم الأول للصيام تنخرط كافة العائلات المغربية في الإعداد لهذه المناسبة الدينية، باقتناء بعض الألبسة التقليدية وإعداد أطعمة خاصة على رأسها “الشباكية” و”المخرقة” وهي حلوى عسلية، مشبكة بشكل خاص، مزينة بالسمسم، ومعطرة بماء الزهر، إلى جانب “البريوات” و”كعب الغزال”، أما “سلو سفوف” والذي يتكون من مزج طحين أبيض بالمكسرات والزيت والسكر ويتم إعداده بطريقة معينة.

أما الشباكية فلا يمكن أن تكون غائبة عن المائدة الرمضانية خلال الإفطار مع شربة الحريرة في مزج ساحر بين المالح والحلو، وقبل وصول حلوى الشباكية إلى مائدة الإفطار فإنها تمر بعدة مراحل أولها إعداد العجين الذي يجتمع فيه الدقيق الممتاز وعناصر الينسون والشمر والسكر والزعفران الحر، ويتم خلط المكونات مع صفار البيض ويمزج العجين بماء الزهر أو الماء، ويضيف البعض كمية من اللوز إذا أرادوا أن تكون للشباكية قيمة غذائية مضافة، وبعد خلط العجين بعناية خاصة يقوم الطباخ بتقطيعه بآلة خاصة ويتم تشبيك العجينة ثم قليها في الزيت وتغطيسها في العسل ثم يصفى بعد ذلك.

وكغيرها من العادات الرمضانية لم يعد الأمر كما كان في السابق عندما كانت النسوة المغربيات من الأسر الميسورة نسبيا يحرصن على إعداد الشباكية بالبيوت قبل حلول رمضان بأسبوع أو عشرة أيام، وذلك بسبب خروج المرأة للعمل وضغوط الحياة اليومية إضافة إلى أن المنتوج يوجد بكثرة وبأثمان متفاوتة حسب القدرة الشرائية.

إشباع الجوع
إشباع الجوع

ويشهد المجتمع المغربي حسب رأي مبروكي، تغييرات كبيرة مع تحول المناسبات الدينية إلى تظاهرات احتفالية، حيث إن رمضان بدأ يأخذ هذا الطابع الاجتماعي من خلال تحضير وجبات الإفطار وتقديمها بشكل استهلاكي بين العائلات والأصدقاء ومع حتى من لا يصومون أو لا دينيين، ولهذا نراهم لا يكتفون بأكلات قليلة التكلفة أو البسيطة بل نراهم يحضرون الكثير من الأكلات لكن لا يستهلك منها حتى الثلث عند تناول الإفطار.

من جهته يقول سعيد بنيس، الباحث في علم الاجتماع، لـ”العرب”، إن إقبال أصحاب الدخل المحدود والمتوسط على الاستهلاك الزائد إبان شهر رمضان يمكن توصيفه من خلال جانبين مختلفين؛ جانب طبيعي يحيل على رغبة الفرد وتمثلاته في إشباع جوعه وانتظاراته الحيوية بعد فترة الإمساك عن الطعام، وجانب اجتماعي واقتصادي يتيح فرص وأزمنة التسوق لواسيما إذا استحضرنا خاصية التوقيت الرمضاني ووفرة البضائع على اختلاف أنواعها داخل السوق المغربية.

وتحيل هذه العادات والسلوكيات على بساطتها الظاهرة إلى ملامح أنثروبولوجية للمغربي والتي يمكن توصيفها، كما يقول الباحث سعيد بنيس، من خلال طبيعة التمثلات القيمية للمغربي التي تتأرجح بين ثنائية الفردية والبنية، حيث إن الفردية تمكن الفرد من التحكم في جسمه ووجوده والتقرير في فعله وسلوكه وفي اختياراته بمفرده، وفي المقابل يحيل مفهوم البنية على العوامل المؤثرة وعناصر الشحن (الجماعة، الطبقة الاجتماعية، الدين، النوع، الإثنية، المهارات، التقاليد…) التي تحدد وتقنن وجود الفرد وقراراته، والسبب الرئيس في الاستهلاك بوتيرة زائدة إبان شهر رمضان هو هيمنة البنية على الفردية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: