أسلمة فرنسا.. تأريخ جديد يفضح غزو الإسلاميين لباريس
في تحقيق مثير صدر أخيرا، يجد القارئ الفرنسي لأول مرة بين يديه تأريخا موثقا للغزو الإسلاموي الإخواني والسلفي لبلاده. أربعون سنة من تساهل وتواطؤ الطبقة السياسية والنخبة المثقفة في فرنسا تجاه الأسلمة والتطرف. ويتضمن كتاب “تاريخ الأسلمة الفرنسية 1979-2019 ، 40 فصلا وكل فصل مخصص لسنة كاملة ابتداء من 1979 إلى 2019. من انبهار المثقفين الفرنسيين بالثورة الخمينية في نهاية السبعينات إلى الأسلمة عن طريق الهجرة اليوم، ويستنطق الكتاب 4 عشريات كاملة من المسكوت عنه عن طريق العودة إلى الأرشيف كالمقالات والقوانين الصادرة أو المعطلة والنداءات والعرائض المنشورة.
يذهب الصحافيون الذين أنجزوا ” تاريخ الأسلمة الفرنسية 1979-2019 عكس تيار إخفاء الحقائق في التذكير بمواقف الطبقة السياسة والثقافية في 688 صفحة. وما يشير إلى الوضع المزري الذي وصلت إليه “بلاد فولتير” هو عدم ذكر أسماء المؤلفين ونشر الكتاب تحت اسم “مجموعة مؤلفين” خوفا من تعرضهم للمقاطعة والطرد من العمل والعقاب. وأكيد هم مجموعة معتبرة نظرا للكم الهائل من الوثائق والاستشهادات المنتشلة من النسيان الإرادي المبرمج.
تواطؤ النخبة
من هنا عنوان الكتاب المذكور الذي يؤكد على الأسلمة الفرنسية وليس أسلمة فرنسا من طرف الغير. هي حكاية أمة تخلت عنها نخبها وتحاول تدجين سكانها الأصليين ليقبلوا ثقافة واردة متكلسة ومتعارضة مع رؤيتهم للحياة الحديثة المنفتحة على العالم. هذا الكتاب يذكر الفرنسيين بكل ما أرادت الآلة الإعلامية أن تخفيه طيلة 40 سنة وعلى الخصوص الإعلام المرتبط باليسار وبالسلطة عموما.
وهذا المسكوت عنه هو الذي شكّل مع الأيام منظومة فكرية تقبل وتفرض الأسلمة وتتاجر سياسيا مع الإخوان المسلمين وتفتح لهم أبواب ضواحي المدن الكبرى الفرنسية المأهولة بالسكان المنحدرين في غالبهم من بلدان عربية وإسلامية.
استهل المؤلفون الفصل الأول المخصص لسنة 1979 أو بداية الطاعون الإسلاموي في إيران بجملة لمدير جريدة “ليبراسيون” اليسارية سيرج جولي يرحب فيها بحكم الملالي “ويدخل الفرح إلى طهران”. ونفس الجريدة تنشر مقالا في نفس تلك المرحلة يدافع فيه كاتبه عن ضرورة قبول بل والدفاع عن حق الوافدين الجدد إلى فرنسا في الاحتفاظ بمعتقداتهم حتى ولو تناقضت مع قيم الجمهورية الفرنسية.
في الثمانينات كان الإعلام يستقبل ويروج لأفكار ما يسمى بـ”المسلمين المعتدلين” بكل الترحاب حتى وإن قالوا نفس ما كان يقوله الإسلاميون المتطرفون. وكمثال على ذلك يذكّر المؤلفون بما جاء على لسان محمد أركون في جريدة “لوموند” الفرنسية في شهر مارس 1989 دون أن يثير أدنى رد أو استنكار حينما يتهم عقل الأنوار بأنه فرض هيمنته على حساب العقل اللاّهوتي.
وعن اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي يقول عمار لصفر عام 1997 وهو إمام مسجد ليل ورئيس “مسلمي فرنسا”، فرع الإخوان المسلمين في فرنسا “الاندماج يعني أن السكان المسلمين سيذوبون في النهاية داخل الشعب. وهذا أمر غير مقبول ومرفوض تماما إذ أن هذا يعني التخلي عن القانون الإسلامي (الشريعة). لغة مسلمي فرنسا هي اللغة الفرنسية لغة القرآن هي العربية. ولا يمكن تغيير هذا. يمكن أن يتم الاندماج ولكن يجب أن يتأسس على اعتراف قوانين الجمهورية بمفهوم الجماعة الدينية. الاندماج يعني
وجود جماعة تخضع لقوانينها الخاصة ضمن مجموعات مواطني فرنسا الحالية”.
وفي الفصل المخصص لسنة 2005، نقرأ تذكيرا بموقف البرلمانيين الأوروبيين المتخاذل، تجاه ما يسمى بالرسوم الكاريكاتورية التي اعتبرها المسلمون اعتداء على الدين الإسلامي، حيث أصدروا بيانا نددوا فيه بحرية التعبير التي تحرض على “الحقد الديني، والعنصرية والخوف من الأجانب”.
ولم يتردد مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي في إصدار نص يعيد فيه النظر في حرية التعبير جاء فيه أنه ينبغي على “حرية التعبير أن تحترم العقائد”. فكأن المسلمين أصبحوا ضحية لحرية التعبير! وحتى جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك أدان الرسوم التي ألهبت العواصم العربية وخلّفت الكثير من الخسائر البشرية والمادية. وهو ما شجّع المجلس الفرنسي للديانة المسيحية على المطالبة بإصدار قانون يمنع الاستهزاء بالأديان، وهو الأمر الذي سانده وزير الاندماج آنذاك إيريك راوول. كل هذا في بلد يعتبر نقد الدين من أهم الحقوق! ورغم أن لا قانون صدر حول هذا الموضوع، يلاحظ أصحاب الكتاب، أن حرية التعبير لم تعد كسابق عهدها في فرنسا، لقد أصبحت في خبر كان جراء المتابعات القضائية المبالغ فيها ضد كل من يبدي رأيا في مسألة متعلقة بالتراث الإسلامي أو ما قاربه.
تجارب وتاريخ
في 2014 عرض دليل بوبكر عميد مسجد باريس على الصحافة ما أسماه “الاتفاقية المواطنية لمسلمي فرنسا من أجل العيش معا”، وهي من اختراع المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية والذي يرأسه دليل بوبكر نفسه. ولكن الشيء الذي تجاهله بوبكر تماما أمام الصحافيين هو البند الخامس من تلك الاتفاقية والمتعلق بمسألة اللباس والذي يقول صراحة إن ارتداء الحجاب واجب شرعي إسلامي.
ومع ذلك فقد ابتهجت وسائل الإعلام بالاتفاقية دون أن تعلق أو تشير من بعيد أو من قريب إلى البند رقم 5 رغم أنه يتعارض مع القانون الفرنسي الذي يمنع ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية. أما جريدة “لوموند” فكتبت تقول إن النص جاء في وقته ويحمل رسالة تسعى لإزالة الشكوك حول الإسلام ويعبر عن رغبة مسلمي فرنسا في تكييف معتقداتهم مع قيم المجتمع الفرنسي! وقد رحبت بالمبادرة “النوفال أوبسرفاتور” و”ميديا بارت” وحتى رابطة التعليم اللائكية.
ولكن كل هذا الإعلام المبالغ في تعاطفه مع الأصولية، لم يعر أدنى اهتمام للرسالة المفتوحة التي نشرتها جمعية “نساء بلا حجاب” في أسبوعية “ماريان” والتي نددت فيها بالمجلس الإسلامي، صاحب المبادرة السابقة الذكر. وحتى الجمعيات النسوية الفرنسية لم تحرك ساكنا لنصرة النساء غير المتحجبات. وهذا الصمت الموارب هو الذي شجع دليل بوبكر سنة 2017 على نشر نصوص تهين اليهود والمسيحيين والملحدين على موقع مسجد باريس الإلكتروني دون أن ينتفض أحد في وجهه.
ألم ينشر إيدوي بلينال مدير “ميديا بارت” حين كان مديرا لجريدة “لوموند” مقالا لطارق رمضان يدافع فيه ويبرر عادة رجم النساء في وقت كانت فيه الجريدة من أشد المدافعين عن قانون ميتران الذي منع عقوبة الإعدام؟ ولكن لماذا هذا التخاذل والسلبية تجاه الخطر الإسلاموي المتعاظم؟
يقدم مؤلفو ما يستحق أن يوصف بــ”كتاب الأسلمة الأسود في فرنسا” عناصر إجابة متمثلة في القول إن اليسار اليائس من بناء المجتمع الجديد الذي كان يحلم به، دفعه ثأره الأيديولوجي إلى محاولة تهديم المجتمع القائم وتفكيك الأمة التي تهيكله. وكذلك بسبب ضعف اليمين البرلماني الذي هيمنت عليه رأسمالية صناعية ومالية لا تبحث سوى عن اليد العاملة الرخيصة وتفجير القيم التقليدية لصالح الاستهلاك الشره والقاتل.