صحافة من دون أصدقاء
ليس بعيدا عن إيقاع الحياة وتسارع متغيراتها، تحضر الصحافة في عمق المشهد وتنقل ما استطاعت مما يستوجب نقله إلى الجمهور العريض في كل أرجاء العالم.
وعلى الرغم من جسامة المهمة والتضحيات التي ما انفكت الصحافة تقدمها بفقد صحافييها في العديد من الساحات إلا أنها ليست دائما مرضيا عنها.
ومع تشبث الجميع بأهداب المصداقية وخاصة طبقة الساسة، تنحو الصحافة المنحى ذاته متمسكة بالحيادية والاستقلالية والموضوعية.
لكن المتغيرات التي تحيط بالصحافي وبالمؤسسة الصحافية تثير إشكالات مركبة، لاسيما وأن الصحافة مهما أوتيت من خطاب الحيادية والاستقلالية فإن هنالك على الدوام من يتشكك وينثر أجواء من عدم الثقة.
هذه الظاهرة رافقت الصحافة وخاصة في الأزمنة الحديثة وكان من ضحاياها الصحافيون أنفسهم الذين يجهدون في غرفة الأخبار وفي ميادين العمل الصحافي من أقلها إلى أشدّها خطورة ومع ذلك هنالك من يتشكك ولا يكترث بجسامة المهمة وتكلفتها الباهظة.
أتراها مراهنة على الاستمرار تلك التي تدفع تيارا مناوئا للصحافة لشن حملات التشكيك والتشويش على الثقة والعلاقة بين الصحافة وجمهورها؟ وماذا بعد عجز المؤسسة الصحافية عن الاستمرار؟ أي فائدة تعود على المجتمع؟ وعلى مجتمع المشككين وعديمي الثقة بالصحافة؟
واقعيا يتلمس باحثون مرموقون هذه الظاهرة ويتتبعونها منذ سبعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا ومنهم الباحثان تيموثي كوك وباول غرونك اللذان انخرطا في استقصاء هذه الظاهرة ونشرا دراسة موسعة في مجلة “الاتصال السياسي”.
من الخلاصات التي توصل لها الباحثان أن من يطلقان عليها شريحة المتلقين ثقال الوزن من جمهور الصحافة وهم من الشريحة المثقفة والمهنية ومن المهتمين بالأخبار بشكل يومي، هذه الفئة ثبت أنها هي الأكثر تراجعا في ثقتها بالصحافة والأخبار.
ويعرض الباحثان – على سبيل المثال – عددا من الأحداث المدوية والهزات التي ضربت عالم السياسة في الولايات المتحدة والتي اكتسبت في بعض الأحيان شكل فضائح ومن ذلك فضيحة ووترغيت ثم فضيحة إيران – كونترا ثم فضائح الرئيس الأسبق بيل كلينتون ثم حربي الخليج، وكان السؤال هو كيف تمثلت تلك الهزات في الصحافة وإلى أي مدى توفرت عناصر ومقومات المصداقية في تلك التغطيات؟
والجواب الحاسم هو باختصار، تراجع في الثقة وتشويش هائل على المصداقية.
وتتسع الظاهرة حتى تجد المؤسسة الصحافية الحريصة على خطها التحريري وموضوعيتها وكأنها تغرد خارج السرب بسبب الاضطراب الذي يكون قد أصاب ساحة الأخبار والتغطيات للأحداث المهمة والاستثنائية وصولا إلى فقدان الصحافة قسما لا يستهان به من جمهورها حتى وصفت مثل هذه الحقبة بأنها حقبة الصحافة من دون أصدقاء.
في موازاة ذلك واستمرارا للتحري في ذات القضية، تنشر مجلة “كولومبيا جورناليزم ريفيو” دراسة استقصت من خلالها نماذج متعددة ممن يعرفون بقادة الرأي، ومنهم مدراء بنوك ورؤساء جامعات وشركات ومؤسسات اقتصادية واجتماعية لتجد أن أكثر من نصف هؤلاء صاروا أبعد ما يكونون عن العلاقة الإيجابية مع الصحافة.
لكنّ جمهورا آخر تتعرض له الدراسة وهو الجمهور الذي ينشغل بالمحليات وأنماط الاستهلاك والربح السريع وعرض قصص النجاح وإشاعة ونشر يوميات النجوم، هذا الجمهور يثق بالصحافة سواء أكانت مقروءة أو مرئية ويتفاعل معها ويراها ضرورية لملء الفراغ اليومي الذي لا يمكن أن تملؤه غير تلك الأخبار المثيرة.
ووفقا لما أشرنا إليه من هذه الظواهر والمؤشرات تبدو مهمة الصحافة أكثر صعوبة مع جمهور يزداد نأيا بنفسه ليعيش في جماعات ذات اهتمامات مشتركة، جمهور ليس مهمّا عنده كيف تصنع غرفة الأخبار تلك الباقات اليومية المتدفقة من الأخبار على مدار الساعة وكم تبذل طواقم الصحافيين والمحررين من مجهودات ضخمة للفوز بجمهور الصحافة واجتذاب مزيد من أصدقاء الصحافة، إنه جمهور منصرف وكفى بلا هدف ولا بديل موضوعي.