صعود اليمين المتشدد يهدد بتغيير الخارطة السياسية لأوروبا
أنهى اختراق اليمين المتطرف للبرلمان الإسباني عقودا من التهميش داخل مجتمع نافر للفكر المتطرف منذ نهاية حقبة الجنرال فرانكو، لتدخل دولة أوروبية جديدة في نفق الشعبوية الصاعدة في أوروبا، المنقسمة والمثقلة بالأزمات. ويخلق صعود الشعبويين في أكثر البلدان الأوروبية المتمسكة بالمفاهيم اليسارية الاشتراكية، ديناميكية جديدة تطرح تساؤلات بشأن تأثير هذه الموجة على السياسة الأوروبية في ظل تراجع شعبية التيارات السياسية الكلاسيكية التي أصابتها الشيخوخة وتبدو عاجزة عن مجاراة حماس الأحزاب الشعبوية التي تتطلع إلى تحقيق اختراق في البرلمان الأوروبي.
لم تعد الأحزاب الشعبوية في أوروبا مجرد ظاهرة ينتظر أن تتراجع وتعود مياه السياسة الأوروبية إلى مجاريها التقليدية، بل إنها تتحول شيئا فشيئا إلى قوة صلبة تستمد نقاط ارتكازها من الرؤى المتباينة لأزمات الاقتصاد والهجرة كما الاختلاف في التعاطي مع مفهوم القومية بمفهومها الأوروبي الشامل والقومية في معناها الأضيق المرتبط بجغرافية الدولة وتاريخها وخصوصياتها.
متابعة التطورات الانتخابية في أوروبا، وما يجري في عمق القارة التي تعيش انقساما لم تشهده منذ نهاية الحرب الباردة، تؤكّد أنه لا يمكن الاستهانة بشعبية التيارات القومية أو التقليل من شأنها في ظل مجتمع أوروبي شديد الانقسام ويتجه نحو الانغلاق أكثر فأكثر على نفسه في ظل تقادم سياسات المعسكرين اليميني واليساري وحتى المعسكر الوسطي. فهل يشكل اليمين الشعبوي وأطروحاته لبنة سياسات القارة التي أصبحت فعلا “عجوزا”، والتي يقول عنها المؤرخ والمحلل السياسي الفرنسي جوستين فايس “رجل أوروبا المريض هي أوروبا”، خاصة وأن وباء الشعبوية بدأ ينتشر في كامل الجسد الأوروبي.
“سايكس بيكو” أوروبية
جاءت ثورات الربيع العربي سنة 2011، بالتزامن مع مئوية اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت بمقتضاها القوى الأوروبية خلال الحرب العالمية الأولى منطقة الشرق الأوسط. ومع تطور تلك الأحداث، تحدث كثيرون عن سايكس بيكو جديدة تصحّح أخطاء الاتفاقية الأولى، وتعيد تقسيم المنطقة وفق قواعد المرحلة الراهنة والقوى المتحكمة فيها، خاصة وأن أوروبا تحولت إلى قوة من الصف الثاني بعد الولايات المتحدة والصين وحتى روسيا.
ينظر الخبراء بعين إلى ما يجري في الشرق الأوسط، وبالأخرى إلى ما يجري في أوروبا، ليجدوا أن الأمر متشابه في بعض تفاصيله العامة، خاصة في ما يتعلق بالقومية والتقسيم، والتاريخ الذي كتبه الأقوياء في تلك الفترة، وهم الأوروبيون، وخاصة فرنسا وبريطانيا.
من هنا، يمكن إسقاط فكرة سايكس بيكو ثانية على الوضع في أوروبا أيضا التي تشهد تغييرا في خارطتها السياسية مع تمدد الأحزاب الشعبوية القومية الرافضة لفكرة الانصهار التام في الوحدة الأوروبية. ومن أسباب الوضع الراهن سياسات الماضي. ومن الباحثين الذين ركزوا على هذه النقطة، بيتر راف، الخبير في معهد هادسون، الذي يرى أن الحديث عن صعود الشعبويين في أوروبا لا يمكن قراءته ضمن السياقات الراهنة فقط، بل يحتاج إلى مراجعات تاريخية.
ويوضح راف فكرته باستحضار حديث درا بينه وبين صديق ألماني. ويقول “كنت أتنزه مع زميل ينتمي إلى عائلة من ألمانيا الشرقية. عندما مررنا بالقرب من الخط الذي يمثل مكان جدار برلين، تحولنا إلى الحديث عن مسائل الهوية والانقسامات التي ما زالت تفرق بين النصفين الشرقي والغربي من برلين وألمانيا وأوروبا”.
قال الصديق الألماني “بالنسبة إلى أصدقائي الغربيين، يشبه الاتحاد الأوروبي أداة للقضاء على الدولة القومية. لكن، بالنسبة لجدتي، وللأوروبيين الشرقيين بصفة عامة، فهو وسيلة لدمج الثروة والدفاع عن دولهم ضد الغرباء”. وعلق راف بقوله “يعكس هذا الحديث واقع أوروبا الحديثة”.
ويعود راف إلى الحديث عن الماضي، ويركز أساسا على فترة الحرب ضدّ الكتلة الشيوعية. وإثر الحرب البادرة، فسّرت نخب أوروبا الغربية النصر بأنه انتصار لليبرالية على الشيوعية وإعلاء للقيم العلمانية العالمية، التي تحولت في ما بعد إلى قيم العولمة، على القومية والتدين والثقافة الضيقة.
وفي تلك الفترة لم تتعامل القوى الأوروبية الغربية مع دول أوربا الشرقية على أساس الندية. وبالنسبة إلى هذه الأخيرة كانت نهاية الهيمنة السوفييتية تعني بداية عهد جديد مليء بفرص التجديد الوطني والتعبير عن الذات الوطنية. لكن، هذه الأحلام بقيت مؤجلة وتم حبسها على حساب إعلاء القومية الأوروبية الجامعة.
وأنتج هذا الوضع “مزيجا خطيرا”. يتكون هذا المزيج، وفق بيتر راف، من “الرعاة الصالحين” أي أوروبا الغربية، ذات النزعة السلطوية، وأولئك الذين واجهوا تجارب السيطرة السوفييتية في الشرق ونشأوا في تربة قومية في انتظار أن تزرع بالأفكار الوطنية.
بعد الحرب الباردة، أصبح حلم التوسع في الاتحاد الأوروبي حقيقة. وغلّف المشروع الفرنسي الألماني الذي كان في مراحله الناشئة بلدان حلف وارسو، وأصبح ما بدأ كمفهوم متأصل في الواقعية السياسية، بيروقراطية كبيرة تُشبعها روح الإنسانية العلمانية ومعاداة القومية.
من هنا، يشير راف إلى أنه لا ينبغي أن يفاجأ أحد من رفض الرومانيين المتدينين والبولنديين الأتقياء فرض العلمانية الفرنسية المستوحاة من معاداة فولتير لرجال الدين وفلسفة ديدرو العالمية. وكان انفجر تمرد شعبي نتيجة ذلك الجدل الذي ارتبط خاصة بمسألة الهجرة.
ويتجدّد اليوم جدل مشابه، مثلا، عندما فتحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أبواب ألمانيا أمام ما يقرب من مليون لاجئ فروا من الشرق الأوسط سنة 2015، في خطوة احتفلت بها النخبة الألمانية باعتبارها تجسيدا للرحمة. ومثّل قرار ميركل هذا لبعض النخب فرصة لإكمال تحول ألمانيا على نطاق واسع، واستبدال الاستراتيجية التقليدية ببحث مناهض للقومية عن الوحدة القارية التي تخدم حقوق الإنسان.
لكن، لسوء حظ ميركل، جاء القرار في وقت بدأ فيه التمرّد يشقّ طريقه نحو عواصم أوروبا الشرقية، وصرخات المعارضة الرافضة لزيادة تدفقات المهاجرين تعلو.
ويشير أستاذ العلوم السياسية جان إيف كامو إلى أن الهوية والهجرة هما “القوة المحركة” وراء التصويت الشعبوي في أوروبا. ومؤخرا، أظهر أداء اليمين المتطرف القوي في انتخابات فنلندا قوة الأحزاب المعادية للمهاجرين في جميع أنحاء القارة الأوروبية. وسببت الانتخابات موجة من الرعب في بروكسل عشية الانتخابات البرلمانية المقررة في الفترة من 23 إلى 26 مايو القادم.
وكان رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان من أكثر السياسيين الذين أبدوا معارضة للخطة الألمانية قائلا “لا يمكنني التحدث إلا عن الشعب المجري، وهو لا يرحب بالهجرة. ليس من الممكن أن تتجاهل الحكومة إرادة شعبية تتعلق بمسألة أساسية”. وأكد أن الهجرة هي التي أدت إلى “فيروس الإرهاب”.
تداعيات بريكست
لم تكن المجر وحدها من سار على هذا النهج. ففي تسع دول من أصل 15 من دول أوروبا الشرقية التي أجرت مؤسسة غالوب الدولية استطلاعات للرأي فيها سنة 2016، اعتقد ما لا يقل عن نصف السكان أن على بلادهم رفض اللاجئين السوريين.
ويرى راف أن أكبر مفارقة في أزمة الهجرة، تتمثل في أن أكبر حركة تمرد ضد بروكسل لم تأت من الشرق بل من الغرب، مشيرا إلى أن قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي يعد حدثا دراميا في تاريخ القارة. ويتزامن قرار بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي (إذا ما حدث ذلك) مع التحولات الجيواستراتيجية الأساسية التي ستؤثر عميقا على مستقبل أوروبا. وسيكون دور ألمانيا حاسما في تشكيل استجابة الكتلة لهذه التحولات، خاصة في ظل الموقف السلبي من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومع ذلك، من غير المؤكد أن توفر برلين القيادة اللازمة للتعامل مع التغييرات.
من السهل إلقاء اللوم على الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتقويضه الاتفاقية الأمنية الخاصة التي جعلت أوروبا قوية وديمقراطية ومزدهرة منذ سنة 1945. ولكن، حتى قبل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تعرض الأوروبيون إلى انتقادات لعدم مساهمتهم الفعالة داخل الناتو. كما اعتبروا ضمان الأمن الأميركي أمرا مسلما.
ويرى بعض القادة الأوروبيين وجوب تحرّك الاتحاد الأوروبي نحو “الاستقلال الاستراتيجي”، وهو طموح غير واقعي مثل قدرة أوروبا على صياغة سياسة خارجية وأمنية فعالة. ويمكن القول إن التذبذب في العلاقة الفرنسية الألمانية يعد سببا آخر من أسباب هذه الفوضى.
اعتادت باريس وبرلين أن تلعبا دور المحرك للتكامل الأوروبي. وإذا لم تعمل برلين وباريس معا لتوجيه الاتحاد الأوروبي الذي يحتاج للتأقلم مع التحولات الجيواستراتيجية العالمية، ولسد الثغرات الخطيرة في سياسة الأمن والدفاع في أوروبا، فإن ذلك سيشكل أمرا مبددا لأحلام أوروبا. وهو ما يخدم في ذات الآن مصلحة روسيا والصين.
في الكثير من الدول ازداد التأييد للقوميين المشككين في الوحدة الأوروبية بسبب الاستياء العام من بطء النمو الاقتصادي والتهديدات الأمنية ورد الفعل المعارض للهجرة عبر حدود مفتوحة في أوروبا.
وتشير التوقعات إلى ارتفاع عدد مقاعد كتلة أوروبا الشعوب والحرية التي تنتمي إليها الأحزاب اليمينية المتطرفة من 37 إلى 61 مقعدا مع الصعود المنتظر لحزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان وحزب الحرية النمساوي.
وبخلاف ما سبق من انتخابات، تبدو الصورة الغامضة لمرحلة ما بعد انتخابات 2019؛ خاصة وأن الأحزاب الشعبوية الصاعدة لها مواقف متماثلة أو متشابهة في سياسة الهجرة، لكنها مختلفة جدا في المجالات الأخرى، ما قد يعني المزيد من الانقسام والأزمات.
ويلاحظ مثلا الفرق الشاسع بين حزب البديل لألمانيا المؤيد لاقتصاد السوق، والتجمع الوطني الداعي إلى اتباع السياسات الحمائية، والرابطة الإيطالية المتشددة، وفيديس المجري الأكثر ليبرالية. كما أن الرابطة وحزب العدالة والقانون البولندي يتمسكان بجذور أوروبا المسيحية، في حين أن التجمع الوطني لا يجعل منها أولوية مناديا بالعلمانية. وحتى في سياسة الهجرة، فهناك انقسامات عميقة بين الرابطة المؤيد لتوزيع طالبي اللجوء على دول أوروبا، والتجمع الوطني وحزب البديل لألمانيا المعارضين لذلك. وهذا ما يدفع كل هذه الأحزاب والتيارات إلى السعي لكسب حلفاء جدد لتعزيز كتلته الخاصة.
مخاوف ثقافية ودينية
لم يكن أولئك الذين صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مدفوعين بمصالح اقتصادية، بل كانوا على استعداد للتنازل عن بضع نقاط من الناتج المحلي الإجمالي مقابل المزيد من السيطرة على مستقبلهم، وتحديدا حماية تقاليدهم الثقافية والدينية، أي هويتهم الخاصة. ولهذا السبب، ينجح الشعبويون اليمينيون في استقطاب المؤيدين.
فمثلا، تشير الإحصائيات إلى تباعد مواقف أوروبا الغربية والشرقية في ما يتعلق بمركزية الدين في الحياة اليومية. ويعتقد 34 بالمئة من الألمان و32 بالمئة من المواطنين الفرنسيين أن الدين مهمّ في هويتهم الوطنية.
وتبلغ هذه النسبة بين البولنديين والرومانيين 64 و74 بالمئة. ويعتبر 66 بالمئة من الرومانيين و69 بالمئة من البلغاريين و89 بالمئة من اليونانيين ثقافتهم أفضل من الآخرين، في حين يحمل 20 بالمئة من الإسبان و36 بالمئة من الفرنسيين فقط هذا الاعتقاد.
تتعدد عواقب هذا الاختلاف الثقافي والديني ومدى تأثيرها على العلاقات في أوروبا، مع تجسيد الأجزاء الشرقية والغربية من القارة لمفاهيم ثقافية مختلفة ورؤى متضاربة لما يعنيه أن يكونوا أعضاء في تكتل أوروبي جامع. الأمر الذي يدفع بيتر راف إلى القول إن أوروبا نفسها أصبحت قارة مكسورة تتوسع انقساماتها لتؤثر عليها داخليا وخارجيا، فيما يبدو جوستين فايس أكثر تشاؤما بقوله إن قوة أوروبا تتضاءل، وإذا لم تتقارب دول القارة معا قريبا، فإن ذلك لن يشكل خطرا على وحدة أوروبا فقط بل يمكن أن يعرّض النظام العالمي بأكمله للخطر خاصة في مثل هذه المرحلة المضطربة مع حكم ترامب وعودة روسيا على الساحة الدولية وتغوّل الصين اقتصاديا.