في العالم العربي الخطر هو الاستخبارات وليس الجيش

يعيش العالم العربي الموجة الثانية من الربيع العربي، من أجل الديمقراطية بعد تقدم مطالب الحريات في كل من الجزائر وتونس، وفشل الثورة المضادة. ويجري التشكيك كثيرا في دور الجيش، لاسيما من قبل كبريات الصحف الغربية، وكأنها (الصحافة الغربية) تمارس ثورة مضادة في صمت. بينما الأجدر بها هو التركيز على العراقيل الكبرى أمام التطور السياسي، ومنه دور الغرب نفسه وصمت شعوبه، ودور مؤسسات الاستخبارات التي تحولت إلى رمز الفساد في العالم العربي.
وأظهرت مؤسسة الجيش في كل من الجزائر والسودان، عن رغبتها في المساعدة في الانتقال السياسي في البلاد، وإن كان إيقاعها بطيئا مقارنة مع مطالب الشعوب التواقة إلى الحرية. وتجد نفسها أمام تحديين: الأول منهما يتجلى في اكتساب ثقة الشعوب، التي عانت كثيرا من توظيف الأنظمة للمؤسسة العسكرية. أما التحدي الثاني فيتمثل في محاولة المؤسسة العسكرية الانضباط دستوريا، خاصة في حالة الجزائر.
وطيلة انتفاضة الجزائريين والسودانيين، والصحافة الغربية تقوم بالتركيز فقط على ما هو سلبي للغاية، بتقديم صورة غير واقعية عن التطورات السياسية، فتارة تتحدث عن انقلابات عسكرية بمفهوم كلاسيكي، وثارة تبرز دورا حاسما للعربية السعودية والإمارات، وكأن البلدين أصبح وزنهما أكثر بكثير من البيت الأبيض والكرملين. وارتقت هذه المبالغات إلى مستوى غرابة التحليل السيريالي، في حالة فرضية تأثير أبو ظبي والرياض على المؤسسة العسكرية في الجزائر.
دور الصحافة الغربية يجب أن لا يقتصر على زرع ألغام التشكيك في طريق موجة الربيع العربي، بل العكس أي المساعدة في تشجيع الفاعلين على تطبيق الديمقراطية، إذ من خلال دراسة مضمون كبريات الصحف مثل «نيويورك تايمز» و»لوموند» ومجلات عريقة مثل «ذي إيكونوميست» خلال الشهرين الأخيرين، سيتبين مدى خطئها في عملية التحليل والتقدير بشأن الدور المستقبلي للجيش، كانت كلها عناوين تشكيك، باستثناء الأسبوع الأخير. لقد أصبحت هذه الصحافة مطالبة بتغيير طرق المعالجة، والمنظار الذي تستعمله في رؤية الأشياء، فالعالم العربي يتطور ومؤسساته تخضع بدورها للتطور، ومن ضمنها المؤسسة العسكرية، ولا يمكن البقاء سجناء رؤية الماضي.
وفي مقال رأي في هذا المنبر منذ أسبوعين، ركز كاتب هذا المقال على الدور الجديد للجيش، وهو ما تناولناه بالتحليل المعمق في كتاب بالإسبانية حول الربيع العربي سنة 2012 بعنوان «ثورة الكرامة». ويبقى المثير للاستغراب هو إبراز الصحافة العربية لمقالات غير صائبة تنشر في الصحافة الغربية، وتجعل منها البوصلة رغم أخطاء الصحافة الغربية، وربما يتعلق الأمر بعقدة «الأجنبي» التي يعاني البعض منها. هناك تطور وسط المؤسسة العسكرية العربية بالتوازي مع تطور الوعي العربي، فالجيش لم يعد معزولا عن محيطه، ولن تكون هذه المؤسسة هي العائق أمام الانتقال الديمقراطي مستقبلا بحكم الوعي المتنامي وسط الجنود بالدفاع عن الوطن، وليس قتل أبناء الشعب. وهكذا، فالعائق بل الخطر الذي يتهدد الشعوب هو مؤسسة الاستخبارات ودورها المقيت والسلبي في العالم العربي. وتعتبر مؤسسة الاستخبارات أسوأ مؤسسة في العالم العربي، ولهذا أقدمت المؤسسة العسكرية في الجزائر والسودان على اعتقال بعض مدرائها وإقالة آخرين بسبب أدوارهم الشريرة. ويمكن الاستشهاد بالدور الذي أراد لعبه مدير الاستخبارات الجزائري السابق الجنرال مدين من تآمر ضد الانتفاضة الديمقراطية. ويعود خطر الاستخبارات العربية الى عاملين رئيسيين وهما:*في المقام الأول، مؤسسة الاستخبارات هي اليد الطولى للأنظمة للتحكم في شعوبها، فهي أداة القمع والتوجيه والاعتقال والاغتيال والقيام بجميع الأعمال القذرة، فهي الخادم المطيع لصاحب السلطة.
*في المقام الثاني، الاستخبارات في العالم العربي ليست مؤسسة على النمط الغربي، فالأخيرة تساهم في حماية البلاد من المخاطر، ومنها محاربة الفساد، بل المحافظة على الديمقراطية والمساهمة الفعالة في صنع القرارات الاستراتيجية لصالح الشعوب الغربية. وفي المقابل، تظل الاستخبارات العربية حبيسة مفهوم المؤامرة، أي اعتبار كل مطالب الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد هو خيانة الحاكم الديكتاتوري، وبالتالي خيانة للوطن كما يتخيلونه. وتعد الأنظمة العربية الحاكمة، عبر استخباراتها الأكثر استعمالا لمفهوم خيانة الوطن، في مواجهة المعارضين، وعندما يتم الكشف عن أسرار الملفات الشائكة، تجد الحاكم ومدير مخابراته ضالعين في خيانة الوطن، سواء عبر استغلال ممتلكات الشعب، أو نوعية التنازلات السياسية والأمنية والاستخباراتية، التي يقدمونها إلى القوى الكبرى لتحميهم وقت الأزمات.

الجيش لم يعد معزولا عن محيطه بحكم الوعي المتنامي وسط الجنود بالدفاع عن الوطن، وليس قتل أبناء الشعب

ونتساءل: هل توجد مؤسسة استخبارات واحدة تساهم في حماية البلاد من الفساد، وتقوم بطريقة أو أخرى في حماية الدستور. الجواب سيكون بالنفي، بل أصبح برنامج هذه المؤسسات العربية هو العمل وفق متطلبات القوى الكبرى، مثل انخراطها في الحرب الباردة، سواء لصالح المعسكر الشيوعي وقتها، أو لصالح الغرب، خاصة واشنطن، ثم انخراطها في الحرب ضد الإرهاب وفق مطالب الدول الكبرى. بينما الأجندة الوطنية الحقيقية وهي، محاربة الفساد ودعم الديمقراطية تبقى غائبة بشكل نهائي، بل تنخرط في دعم الفساد والديكتاتورية.
الربيع العربي هو موجة من أجل الديمقراطية، وعندما تنتقل الشعوب إلى ممارسة حريتها، تعيد النظر في الكثير من المؤسسات، ومنها مؤسسة الاستخبارات. وفي الدول التي انتقلت ديمقراطيا منذ السبعينيات مثل البرتغال وإسبانيا واليونان، بل حتى في أمريكا اللاتينية، جرى تنظيم الاستخبارات وإخضاعها لمراقبة لجنة خاصة في البرلمان ومراقبة قضاة لعملها.لم يعد الجيش هو العائق أمام بناء الوطن الديمقراطي بل مؤسسة الاستخبارات في العالم العربي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: