عقوبة الإعدام.. مصادرة للحق في الحياة أم وسيلة لردع المجرمين
لن ينتهي الجدل حول عقوبة الإعدام بين مطالبين بإلغائها وآخرين متمسكين بضرورة الإبقاء عليها، فهي عقوبة تفرضها القوانين على من يرتكب جرما كبيرا، إلا أنها في نظر البعض عقوبة لا إنسانية ومُهينة وتنتهك حق الفرد في الحياة. فيما يرى البعض الآخر خاصة في المجتمعات العربية ومن بينها تونس، التي اكتوت بنار الإرهاب وجرائم العنف الاجتماعي، أن تطبيق هذه العقوبة على مرتكبي هذا النوع من الجرائم إحلال للعدالة وإنصاف للضحايا.
في الأسبوع الماضي، وبعد 21 عاما من ارتكاب جريمته الوحشية، أعدمت السلطات في ولاية تكساس الأميركية جون ويليام كينج (44 عاما)، وهو عنصري متطرّف من مؤيدي تفوّق العرق الأبيض، لإدانته بقتل رجل أسود كان قد جرّه بشاحنة حتى تقطع جسده في يونيو عام 1998. وولاية تكساس واحدة من بين 30 ولاية أميركية تطبّق عقوبة الإعدام، وإن اختلفت الأساليب ما بين صعق بالكهرباء واستخدام الغاز المميت وغيرهما، فإن هناك 20 ولاية، بالإضافة إلى واشنطن العاصمة، لا تطبّق هذه العقوبة.
هذا الانقسام الأميركي حول تطبيق عقوبة الإعدام من عدمه جزء من انقسام عالمي، وبدورها تشهد المجتمعات العربية تباينا في المواقف بين مؤيّد للإعدام ومعارض له، وإن كانت غالبية الآراء تصطف ضد الإعدام بدعوى الانتصار لحق الإنسان في الحياة.
ولم تحسم الدول العربية موقفها من عقوبة الإعدام بشكل قاطع فهناك دول جمدت تنفيذ العقوبة، أغلبها منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، ودول عادت إليها بعد تجميد استمر طويلا. وتعدّ جيبوتي الدولة العربية الوحيدة التي ألغت عقوبة الإعدام وذلك منذ عام 1995.
تجربة الإعدام في تونس
تتعالى الأصوات المنادية بإلغاء عقوبة الإعدام في تونس تتمة للمناخ الديمقراطي الذي باتت تتمتع به منذ اندلاع انتفاضة يناير 2011، غير أن الحكومة مازلت ترفض توصيات بإلغاء العقوبة من قانونها. كما نص قانون مكافحة الإرهاب الذي اُقر في يوليو 2015 على عقوبة الإعدام.
ويعود تاريخ آخر حكم قضائي بالإعدام شنقا في تونس سنة 1991 وطبّق بحق رجل يدعى الناصر الدامرجي ارتكب سلسلة من جرائم قتل واغتصاب، واشتهر حينها باسم “سفاح نابل” ليجمّد بعدها التنفيذ في مثل هذه القضايا، بينما واصلت المحاكم التونسية إصدار أحكام الإعدام رغم عدم تنفيذها. وتلاقي عقوبة الإعدام معارضة شرسة من المجتمع المدني. وقد دعا الائتلاف التونسي إلى إلغاء عقوبة الإعدام، المنظمات الحقوقية الوطنية والعربية، أواخر مارس الماضي، وإلى “التجنّد من أجل الدفاع عن الحقّ في الحياة، وفرض التعليق الفوري لتنفيذ أحكام الإعدام، ومصادقة الحكومات العربية على البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.
وبدوره قدم تقرير “لجنة الحريات الفردية والمساواة” العام الماضي، الذي تضمن العديد من المقترحات الإصلاحية تخص مواضيع شائكة، اقتراحين في خصوصها، إمّا إلغاء العقوبة تماما وإما تطبيقها في الجرائم التي تتسبب بالموت، على أن يُستثنى منها المحكومون القاصرون والنساء الحوامل كما نصّت المعاهدات الدولية. وترى بعض الشخصيات السياسية البارزة في تونس ومعارضة لعقوبة الإعدام أنها غير ضرورية طالما أن السجن مدى الحياة يمكن أن يحقق نفس الغرض.
ويشير محمد عبو الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي التونسي ، إلى أن “عقوبة الإعدام تجاوزها الزمن ولم تثبت التجربة والإحصائيات بشكل دقيق أن إقرارها يؤدي إلى التقليص من الجريمة أو الردع، بل في بعض الحالات عندما يعلم الجاني أن الإعدام ينتظره فأنه قد يرتكب جرائم أخرى”.
وتابع “الفكرة اليوم عن الدولة القوية هي من تطبق القانون وتمارس العنف الشرعي حين تضطر مثلا لإطلاق النار على المجرم، وحين تكون هناك محاكمة متواصلة فإن الدولة لا تنتقم إنما تطبق العدالة”. ويرى عبو أن “السجن المؤبد في حد ذاته عقوبة صارمة وكافية”.
وعن تجربة تونس في تطبيق حكم الإعدام. يلفت عبو إلى أنه قبل ثورة يناير كان المحكومون في الإعدام في تونس لا حق لهم في تلقّي مراسلات من عائلاتهم، وما تغيّر بعدها هو أن المحكومين باتوا يتمتعون بهذا الحق، غير انه لم يقع إلى الآن إلغاء الإعدام بشكل نهائي.
من جهته أوضح جمال مسلم، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ، أن “الائتلاف المدني يكثف عمله في تونس وعلى مستوى عربي لأجل مناهضة عقوبة الإعدام”. ويرى مسلم أن عقوبة الإعدام لا تحلّ المشكل وأنه وجب مراجعة التشريع التونسي بخصوصها”. وتابع بقوله “كان من المفروض إلغاء هذه العقوبة في تونس بعد الثورة”.
ويرى معارضو الإعدام في تونس أنها جريمة تنتهك أهم حق من حقوق الإنسان الأساسية، وهو الحق في الحياة. هنا يرد مؤيدو العقوبة قائلين: أليس من المحتمل أن الشخص الذي ستطبق عليه عقوبة الإعدام قد انتهك هو نفسه حق شخص آخر في الحياة؟
للشارع رأي أخر
يؤكد المعارضون لعقوبة الإعدام أنها لا تراعي الحرمة الجسدية وحق الحياة، لكنهم في المقابل يتجاهلون أن عددا من الإرهابيين والقتلة ومغتصبي الأطفال وغيرهم يهربون من السجون كل عام، وعقوبة الإعدام هي الوحيدة التي لا يستطيع أحد الهروب منها.
ومع ظهور الإرهاب في تونس منذ 2011، عبّر الشارع التونسي عن تأييده لتطبيق أقسى العقوبات، ومن بينها الإعدام، ضد المتطرفين، رافعين شعار “لا حياد مع الإرهاب”.
وعلى غرار قضايا الإرهاب يدعم صف كبير من الشارع التونسي تطبيق الإعدام ضد مرتكبي جرائم الاغتصاب والقتل المتعمد.
ويلفت مهدي مبروك، أستاذ علم الاجتماع ، أن هناك عودة للمطالبة بتطبيق عقوبة الإعدام في تونس بعد انتشار الجرائم الإرهابية وجرائم اغتصاب الأطفال التي تثير الرأي العام”.
واستدرك بقوله “لكن علينا ألاّ ننصاع إلى هذا المزاج الشعبي وأن نبحث على مقاربات أخرى ثقافية وتربوية للتخفيض من الجرائم”.
وفي عام 2016 قاد التونسيون حملة على موقع فيسبوك للمطالبة بإعدام عسكري تورط في جريمة بشعة. وعاش الشارع التونسي، آنذاك تحت وطأة الصدمة والغليان بسبب جريمة ارتكبها شاب (25 عاما) يعمل في المؤسسة العسكرية في حق الطفل ياسين (4 سنوات) اختطفه من أمام الحضانة، بينما كان صحبة شقيقته (11 سنة) وعمد إلى ذبحه في غابة.
وطالب سياسيون ومحامون ونشطاء، ضمن حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بإعدام قاتل الطفل ياسين في ساحة عامة، محمّلين القضاء مسؤولية تسليط أشد العقوبات على القاتل، واصفين ما حصل بالمأساة والفاجعة الأليمة.
وتقول مروى عارف وهي موظفة تونسية ، إنها “تدعم تطبيق الإعدام في قضايا القتل واغتصاب الأطفال والإرهاب”. وردا على حجة أن عقوبة الإعدام لا تردع الجريمة، يقول المؤيدون لها أن إعدام القتلة يمنعهم من ارتكاب القتل مرة أخرى.
وقد اعترف مجرمون في الآلاف من القضايا الموثقة أن عقوبة الإعدام هي التهديد الوحيد الذي يردعهم عن ارتكاب جريمة القتل.
من ناحية أخرى، يزعم معارضو الحكم بعقوبة الإعدام أنه يمكن أن يتسبب في إعدام أشخاص يثبت في ما بعد أنهم كانوا أبرياء. ويرد مؤيدو العقوبة على ذلك بأنه ليس هناك أي دليل يوضح أنه تم إعدام أبرياء.
ويعتقد مهدي مبروك أن عقوبة الإعدام تظل دائما منافية للحق في الحياة، وهو حق أعطاه الله والخالق والطبيعة للبشر ولا يجب احد أن يفتك به أو يصادره مهما كانت الجريمة المرتبكة، بل إن القضاء بذلك سيعيد إنتاج الجرائم من خلال تطبيق الإعدام الذي يعد أقسى درجات العنف، باسم العدالة.
وأوضح مبروك أن غالبية الدراسات أثبتت أن عقوبة الإعدام لم تكن رادعا مفيدا لتنامي الجريمة، بل في كثير الأحيان تنخفض الجريمة في الدول التي ألغت الإعدام مقارنة مع الدول المستمرة في تطبيقها.
ويبقى رأي الدين هو الفاصل في القضايا الشائكة والجدالية. وأوضح هشام قريسة رئيس جامعة الزيتونة التونسية ، أن “الإعدام في الشريعة الإسلامية ككل قوانين العالم يجب قبل تطبيقه أن يقع التثبت من جريمة القتل والعدوان والرصد والتنفيذ وهي شروط أساسية لتنفيذ الإعدام”. وتابع بقوله “هذا هو المنطق الديني والقانوني إذا كانت الجريمة مؤكدة فمن العدل أن يقتص من المجرم لتعمده قتل روح بشرية”.
انخفاض تطبيق الإعدام
في مطلع شهر أبريل الحالي أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرها السنوي لعام 2018 بشأن عقوبة الإعدام. وذكرت المنظمة أنها سجلَّت في عام 2018 “ما لا يقل عن 690 عملية إعدام في 20 بلداً، أي أن هناك انخفاضاً بنسبة 31 بالمئة مقارنةً بعام 2017 (ما لا يقل عن 993 عملية إعدام)”. ويمثل هذا الرقم أدنى عدد من عمليات الإعدام سجَّلتَها المنظمة في العقد الماضي.
من الممكن أن يعتبر مؤيدو استمرار فرض عقوبة الإعدام الخوف منها أحد أسباب هذا الانخفاض. وقد تم تنفيذ معظم هذه الإعدامات في الصين وإيران وفيتنام والعراق. وظلت الصين تحتل المرتبة الأولى بين الدول التي نفذت عمليات إعدام في العالم.
وأشارت المنظمة إلى أن الرقم الحقيقي لاستخدام عقوبة الإعدام في الصين لا يزال غير معروف لأن هذه المعلومات محظورة هناك باعتبارها من أسرار الدولة، ولذلك فإن العدد 690 لا يشمل الآلاف من عمليات الإعدام التي يعتقد أنها نفذت في الصين.
وهناك نشاط عالمي متزايد لوقف استخدام عقوبة الإعدام، وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 17 ديسمبر الماضي، بأغلبية ساحقة، القرار السابع بشأن وقف استخدام عقوبة الإعدام.
وبحسب التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية، فقد صوّت لصالح القرار 121 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، من بينها تونس والجزائر وليبيا، بينما اعترضت 35 دولة على القرار. وذكرت المنظمة أنه في يونيو الماضي، ألغت بوركينا فاسو عقوبة الإعدام في قانون العقوبات الجديد. وفي فبراير ويوليو، على التوالي، أعلنت غامبيا وماليزيا وقف تنفيذ عمليات الإعدام رسميا.
من ناحية أخرى، سجلت منظمة العفو الدولية حالات تخفيف لأحكام الإعدام أو عفو عن المحكومين بالإعدام في 29 دولة. كما سُجّلت 8 حالات تبرئة لسجناء محكومين بالإعدام في أربع دول، هي مصر والكويت ومالاوي والولايات المتحدة الأميركية.