حراك الجزائر والسودان امتداد لربيع “عربي” أم “أفريقي”

ساهم التحول الفكري في مسار الثورات بالقارة الأفريقية، من فلسفة الكفاح المسلح إلى الاحتجاج السلمي، في تقديم صور مختلفة للقارة تجعل الإطاحة بالنظامين السياسيين في الجزائر والسودان مسألة لا يمكن فصلها عما يجري في محيطها القاري أكثر من ارتباطه بنزعة الاحتجاج العربية.

مع اندلاع الاحتجاجات في السودان والجزائر، ظهر جدل حول ما تحمله تلك الموجة الثورية من امتداد وجذور. وتباينت آراء المحللين السياسيين إن كانت الاحتجاجات إحداثية جديدة لثورات الربيع العربي، التي ظهرت في عام 2011، ولكن بصورة محسنة وراثيًا، أم أنها حالة احتجاجية مستقلة توازي الثورات العربية ولا تتداخل معها.

وتظهر تأويلات جديدة تربط ما بين صعود قوة الشعب في أفريقيا عموما، ما جرى وما زال يجري في الجزائر والسودان، باعتبار أن الاحتجاج امتداد للجغرافيا القارية أكثر منه امتدادا للهوية العربية.

وطرح صعود الاحتجاج الشعبي في أفريقيا مفاهيم مهمة منذ السبعينات لاسيما مع تغير مفهوم القارة من نظريات فرض القوة العسكرية والحرب الأهلية الممنهجة إلى حكم الشعب بالقوة السلمية.

وتقدم التغيرات في الإحصاءات الأفريقية خلال العقدين الأخيرين، وتحديدا منذ عام 2000 شمولية التغير الفكري من الاحتجاج المسلح إلى المظاهرات السلمية. وظهرت خلال تلك الفترة نحو 25 موجة ثورية في أفريقيا، وهي الأعلى بالنسبة إلى قارة، كما أنها تعادل ضعف عدد الاحتجاجات في آسيا.

النزعة الثورية الأفريقية

نجحت عدة بلدان أفريقية في إحداث تغير ممتد، بينما لم يكتب النجاح لآخرين، ولكن 58 بالمئة من تلك الاحتجاجات القارية نجحت في الإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية التي ظلت تسيطر على الحكم لسنوات طويلة، ومن بينها بوركينا فاسو وزامبيا وتونس وجنوب أفريقيا ومالي ومدغشقر وكوت ديفور، وأخيرًا الجزائر والسودان.

وتقول زوي ماركس الكاتبة بصحيفة “فورين أفيرز” الأميركية، إن التغيير في العقلية الأفريقية لم يكن وليد اللحظة، ولكنه طرأ بعد سلسلة طويلة من المد والجزر الثورييْن؛ فعلى سبيل المثال في الجزائر استمرت مؤشرات الاحتجاج في الصعود بقوة بداية من عام 2010 في صورة إضرابات عامة وأعمال شغب محلية، وفي السودان ظهرت الأيديولوجيا في تطور مع احتجاجات عام 1964 ثم 1985.

وتشبه ماركس النزعة الثورية المعاصرة في إفريقيا بما عاشته الهند في عهد مهاتما غاندي ضد الاحتلال البريطاني من مقاومة سلمية مناهضة للضرائب البريطانية أوائل القرن العشرين، والتي استعانت بها جنوب أفريقيا كميثاق عملي احتجاجي عام 1990 أثناء مقاومتها لنظام الـ”أبارتيد” العنصري ضد البشرة السوداء.

ويقول زياد عقل، خبير علم الاجتماع السياسي بمركز الأهرام للدراسات الأفريقية، إن الارتباط الحاصل بين تظاهرات الجزائر والسودان، وبين الأوضاع في القارة الأفريقية وارد، ولكنه يحتاج إلى دراسة متفحصة للأوضاع الداخلية في البلدين وما يجري في القارة من أحداث متتابعة.

تحول النزاعات من العنف إلى التظاهر السلمي فرض وجها جديدا للقارة
تحول النزاعات من العنف إلى التظاهر السلمي فرض وجها جديدا للقارة

وأضاف في تصريحات لـه أن مصطلح “دورة المظاهرات”، بمعني انتقال التظاهر من منطقة إلى أخرى في الإقليم الواحد، مفهوم سياسي معروف، ولكن الأمر لا يرتبط بما شهدته البلدان الأفريقية فحسب، بل هو مسألة لا يمكن فصلها عن الوضع السياسي العالمي مؤخرًا من صعود لموجة الاحتجاجات في بقاع متعددة في العالم، وأبرزها احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا.

ويوضح أن مراحل الثورة تختلف من بلد إلى آخر، غير أن الأصول قد تكون ثابتة. وفي جميع الدول كانت هناك أنظمة استبدادية تتسم ممارستها بالكثير من التشابه في ما يتعلق بغلق المجال العام أو تعاملها مع الدساتير أو تضييقها على المعارضة.

وبحسب عقل فإن فكرة هوية الاحتجاج، عربية أم أفريقية، مسألة لا  يشوبها التناقض وهي في الحقيقة كيان واحد؛ فبمعايير الزخم الثوري المتصاعد في أفريقيا منذ السبعينات يمكن القول إن ما حدث في مصر وتونس وليبيا لم يكن “ربيعا عربيا” فقط، وإنما هو “ربيع أفريقي” أيضا.

يرى محللون أن هناك أربعة عوامل رئيسية دعمت نجاح الانتفاضات في أفريقيا؛ أولا قيام النشطاء بتعبئة الحركات الجماهيرية والتوعية بمساوئ الحكم الدكتاتوري، وثانيًا تم تسخير مشاركة المرأة بشكل غير مسبوق، وثالثًا استغلال الدعم الضمني من قبل المؤسسات العسكرية والأمنية المحلية لصالح التظاهرات، وأخيرا قيادة النخبة لتلك الاحتجاجات.

وتظهر النزعة الاحتجاجية لدى الأفارقة بشكل أقرب إلى تركيبة كيميائية متناسقة ومتسقة المعايير، والتي جعلت الشعوب الأفريقية باختلافاتها القبلية والدينية والعرقية والإقليمية، قوة موحدة ضد الهيمنة على الحكم والدكتاتورية.

صعود النخبة الأفريقية

يرى مراقبون أن مقادير النجاح الأفريقي تمثلت في ولادة طبقة مجتمعية جديدة من النخبة تكونت بذرتها الأولى في السبعينات مع تحسن تدريجي لمستوى التعليم، وسفر فئات كثيرة لتشابك مع الفكر الغربي عبر الدراسة والعمل.

كما أن تطور الفكر والانفتاح لدى الكثير من المنظمات والمؤسسات الأفريقية مؤخرًا مثل الكنائس والنقابات والروابط المهنية والحركات العمالية والمعاهد التعليمية، كل ذلك رسخ لمرحلة جديدة من المبادئ الثورية الباحثة عن التغيير السلمي.

وتقدم زيمبابوي وثورتها ضد الحاكم روبرت موغابي، أحد أقدم الزعماء الأفارقة، نموذجا للصعود النخبوي، لاسيما بعد أن نجح القس إيفان ماوير في إطلاق شرارة الاحتجاجات عبر حشد فئات معينة قادرة على الحراك الواسع كالشباب الجامعيّين وقدامى المحاربين والأطباء والمحامين لتنضم إليها بعد ذلك طبقات جديدة من العمال والمزارعين، أطاحت بموغابي في عام 2017.

تظهر النزعة الاحتجاجية لدى الأفارقة بشكل أقرب إلى تركيبة كيميائية متناسقة، والتي جعلت الشعوب الأفريقية باختلافاتها القبلية والدينية  قوة موحدة ضد االدكتاتورية

ويمثل الشباب عموما نحو 60 بالمئة من إجمالي سكان القارة الأفريقية وهي مسألة ساهمت بقوة في تحقيق تحالفات سياسية وفرز نزعة متمردة على القارة اليافعة زادت من زخم الحراك والانتفاضة وجعلت الشباب هم الوقود المحرك.

ظهر ذلك جليًا في ثورات مصر وتونس وكذلك خلال حراك “يئن مارا” الشبابي في السنغال أو “بالي كيتون” في بوركينا فاسو وأخيرًا في الجزائر والسودان بعد تعبئة الشوارع بملايين الشباب الباحثين عن وظيفة والراغبين في حياة كريمة.

ودفع دخول المرأة كعنصر جديد وفعال في الحركة الاحتجاجية إلى عوالم جديدة في أفريقيا أيضا، لاسيما أنها لم تصبح فقط جزءا من الاحتجاج وإنما صارت أيقونة تلهب حماس المتظاهرين مثلما فعلت آلاء صلاح التي لقبت بملكة النوبة، عندما مثلت صورتها بزيها الشعبي وهي تقود المظاهرات في الشارع، رمزا للثورة السودانية على نظام البشير.

ولكن لا يعني التغيير الذي تعيشه أفريقيا، أنه تغيير شامل يعدل تكوين القارة الاجتماعي والديموغرافي بالكامل. فكما كُتب النجاح لحركات ثورية في دول أفريقية عدة قادها المجتمع المدني والطبقات النخبوية المتعلمة، اصطدمت نفس تلك النخب، بتكوينها الشاب، بظروف وتركيبات معقدة أفشلت أهدافها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: