العالم الافتراضي.. من منصة ترويج لداعش إلى منبر فكري لقطع جذوره
على وقع الهزيمة التي تلقاها تنظيم الدولة الإسلامية عسكريا وميدانيا في أهم معاقله بمنطقة الشرق الأوسط وخاصة في سوريا والعراق، يهتم الباحثون والمفكرون بالبحث عن حلول ومعالجات، لقطع جذور الفكر المتطرف وذلك عبر التكثيف من الندوات الفكرية التي تطرح المشاكل العميقة، التي يجب على العالم تجنبها في فترة ما بعد القضاء على داعش. واللافت أن جزءا هاما من هذه الندوات جاءت افتراضية عبر الإنترت، وآخرها ندوة نظمها مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي، حيث تبادل المختصون سلسلة من النقاشات، للبحث في كيفية تلافي الاصطدام بما يُسمى الألغام التي زرعها التنظيم المتطرف، ليتحول بذلك العالم الافتراضي من منصة أتاحت للجماعات المتطرفة الترويج لأفكارها إلى منبر فكري يبحث في سبل إنهائها ماديا وفكريا.
أجمع باحثون ومختصون في الشؤون الإسلامية على أن المقاربات الأمنية والعسكرية غير كافية للقضاء على الفكر المتطرف خاصة بعد الهزيمة التي مني بها تنظيم داعش مؤخرا على الأراضي السورية.
وأكد هؤلاء المختصون في قراءات مختلفة خلال ندوة نظمها مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي مؤخرا، إن المخاوف من أن يطل التنظيم برأسه مجددا تتطلب تنسيقا شاملا بين مختلف الأطراف المعنية، لإنشاء خطط استراتيجية مُحكمة للحدّ من انتشار الأيديولوجيا الجهادية وآثارها التدميرية.
وجاءت الندوة الفكرية الافتراضية تحت عنوان “واجباتنا تجاه مجتمعاتنا ما بعد داعش” للبحث عن معالجات تقي المجتمعات من الفكر المتطرف بعدما مُني تنظيم الدولة الإسلامية بهزائم عسكرية كبرى في منطقة الشرق الأوسط.
وشارك فيها العديد من المختصين والخبراء في تفكير وأساليب الجماعات الإرهابية، ومن بينهم الكاتبة هوازن خداج والسياسي والكاتب حسن النيفي، ومحمود الإبراهيمي الباحث في التاريخ، والمفكر الإسلامي محمد حبش، والباحث الاستراتيجي أسامة آغي، الذين قدّموا مقارباتهم لكسر شوكة التنظيمات المتطرفة من الناحية الفكرية وخاصة الآليات التي يجب تركيزها لحماية المجتمعات من التأثر بما تسوّقه الجماعات الإرهابية من أفكار دموية.
علاوة على أهمية مثل الندوات الفكرية من ناحية المضامين خاصة عبر تسليط الضوء بصفة معمّقة على الألغام التي زرعها تنظيم داعش وسط المجتمعات وخاصة لدى شريحة الشباب، فإنها تميزت من ناحية الشكل بأنها جاءت افتراضية أي عبر تبادل المقاربات عبر الإنترنت، وهي طريقة توصف بأنها من أفضل الأسلحة التي تحوّل العالم الافتراضي من وسيلة ومنصة تتيح للجماعات الإرهابية ترويج فكرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو التطبيقات الذكية الأخرى، إلى منبر فكري تكون فيه الكلمة الفصل للمختصين لطرح تصوراتهم ومقارباتهم المضادة والساعية إلى حماية الأفراد من الانجرار وراء الخطب العنيفة والمتشددة.
وتمكّنت جل التنظيمات الإرهابية من القاعدة إلى داعش وفروعهما، من التغلغل في المجتمعات بالاعتماد على عدة أساليب تقليدية أو تكنولوجية للاستقطاب والتجنيد، وعلاوة على سيطرتها في بعض الفترات وخاصة التي تلت ما يعرف بثورات الربيع العربي على دور العبادة وتوظيفها لدمغجة الشباب ودفعه إلى القتال في بؤر التوتر كسوريا والعراق، فإنها وجدت الإنترنت كأنجع طريقة سهلت عليها مأموريتها.
حيث أثبتت العديد من الدراسات وخاصة الاستخباراتية الدولية أن وسائل الاتصال الاجتماعي وتطبيقات ذكية أخرى كان لها النصيب الأوفر في الزجّ بآلاف الشباب من مختلف بلدان العالم في محارق الإرهاب بتوسل خطابات دينية عنيفة ومتطرفة تتركز أساسا على دغدغة العواطف والوازع الديني.
وفي هذا الصدد، أعلنت نيوزيلندا وفرنسا الخميس الماضي عن مبادرة لعقد قمة تجمع قادة سياسيين ورؤساء شركات تكنولوجيا من العالم خلال الشهر المقبل في باريس، وذلك بهدف وقف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة ترويج للإرهاب، وفق ما أكد عليه زعيما البلدين.
وستترأس الاجتماع رئيسة الحكومة النيوزيلندية جاسيندا أرديرن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وسيطلب من الجميع الالتزام بتعهد أطلق عليه اسم “نداء كرايست تشيرش” يهدف إلى استئصال محتوى الإرهاب من شبكة الإنترنت.
وقالت أرديرن إن الاعتداء الذي استهدف مسجدين في كرايست تشيرش في 15 مارس وأسفر عن مقتل 50 مصليا مسلما شهد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي “بطريقة غير مسبوقة كأداة للترويج لعمل إرهابي بدافع الكراهية”.
ألغام فترة ما بعد داعش
تثير فترة ما بعد داعش قلق مختلف دول العالم، خاصة في ظل تواصل أنشطة بعض الخلايا النائمة التابعة للتنظيم في عدة بلدان، وقد تأكدت كل هذه التوجسات خاصة بعد اعتداءات سريلانكا التي تبناها تنظيم داعش والتي جاءت كعنف انتقامي مضاد للهجوم الإرهابي العنيف في نيوزيلاندا والذي نفذه يميني متطرف.
وطرحت ندوة مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي، مختلف السبل لحماية المجتمعات من هذه الفترة التي ستكون حبلى بمخاطر الجماعات المتطرفة والمندسة وسط شعوب ومجتمعات العالم.
وتقول الكاتبة هوازن خداج في مقاربتها التي كانت تحت عنوان “نهاية داعش وإغلاق أبواب الجحيم” إن إعلان هزيمة داعش أو فكرها لن ينهي بالضرورة خطر الإرهاب الذي عانت ويلاته دول عدة، عربية وغير عربية، ما يعني ضرورة التوجه نحو خطط بديلة تستوجب التنسيق الدولي الشامل، لبناء خطط استراتيجية مُحكمة للحدّ من انتشار الأيديولوجيا الجهادية وآثارها التدميرية.
ومن بين المقترحات التي تقدمها خداج أن تقوم الدول بالتنسيق في ما بينها، لبناء قاعدة بيانات وتشكيل هيئة دولية لتحليل البيانات واستخلاص نتائجها، للخروج باستشراف مستقبلي يعطيها إمكانية وضع الحلول الملائمة.
وتوصي بوجوب الاستناد إلى فريق عمل متكامل، من باحثين ودعاة إسلاميين تنويريين ومختصين أمنيين وإعلاميين، يقع على عاتقهم تأسيس مراكز للدراسات الاستباقية تواكب المتغيرات المتسارعة دوليا ومحليا، وتتوجه أولا نحو استنباط الحلول الممكنة، وثانيا التنسيق مع الفاعلين المحليين في الدول لضبط الظاهرة.
منذ أن نجح التنظيم المتطرف، في السيطرة على أراض واسعة خاصة في سوريا والعراق، تتمسك العديد من النظريات والمقاربات العربية بالترويج لفكرة أن تنظيم داعش هو صنيعة غربية منطلقها عداء الإسلام وأن الشباب المسلم هو ضحية القوى الكبرى وليس ضحية الفكر المتطرف.
وتشدد خداج على أن من أوكد المعالجات التي تسمح بالتخلص من خطر الفكر الإرهابي تلك التي تكمن في وجوب التخلص نهائيا من فكرة نظرية المؤامرة التي تجعل من داعش صناعة غربية ومؤامرة على الإسلام، وهي أطروحة تعتمدها أكثرية مدافعة عن الإسلام.
كما طرحت خداج ضمن هذه المقاربة الافتراضية، حلولا عاجلة تطالب بالاستناد على سرعة تحول تنظيم داعش إلى “دولة الخلافة” زمانيا ومكانيا، وتمكنه من أن يصبح قوة جاذبة للشباب، مشددة على ضرورة كسر أساليب الاستقطاب التي مكنت التنظيم من تحقيق هذه النجاحات والاختراقات للنسيج المجتمعي ومنها الإنترنت.
خطوات عزل التطرف
نجح التدخل العسكري في أكثر من مكان وكانت آخر الأمكنة سوريا وقبلها العراق في دحر تنظيم داعش والقضاء عليه عسكريا، لكن ذلك لم يمنع الخبراء منذ سنوات من التشديد في المقابل على أن المقاربات الأمنية والعسكرية وحدها غير كافية لتجنيب العالم المزيد من المستنقعات الإرهابية، بتأكيدهم على أن المقاربات الفكرية والدينية والثقافية ضرورة لا بد من استعمالها وترويجها في كل الفضاءات للقضاء على منابع التطرف من أصولها.
في هذه النقطة بالذات، يقول الخبير الأمني محمود إبراهيم في مداخلته بالندوة إن بعض النظريات الأمنيّة تؤكّد أنّ السيكولوجيا البشريّة تحمل في دواخلها بذور العنف، لهذا يجب السيطرة عليها إمّا بالالتزام الذاتي للإنسان، وإما بالمتابعة والمراقبة مِـن المجتمع، خصوصا مجتمعات الشرق الأوسط التي انتقلت من سلطة القائد الأوحد والزعيم الذي يمارس سلوك “نصف آلهة” إلى سلطة اللاهوت والحكم باسم الدين التي مثلتها التيارات المتطرفة.
ويؤكد إبراهيم على ضرورة إنشاء مشروع يُعنى بِـمكافحة التطرّف والإرهاب، حيث تُلحظ فيه النظريات الأمنيّة والاستخباريّة جميعها ومنها التي تؤكّد أنّ التنظيمات المتطرفة يمكن تجميدها وعزلها فقط، ولا يمكن القضاء عليها مطلقا، لهذا يكون العمل على خطّة مستدامة قادرة على مراقبة التطرف وتطويقه وعزله في كل مجتمع بحيث تُراعى خصائصه وقدراته.
كما توجد العديد من الأطروحات، التي تناولت ظاهرة التطرف وخاصة ما يتعلق بمقاتلي تنظيم داعش، حيث تُصنفهم ضمن الحالات المرضية النفسية الناتجة عن عدة مبررات كالتهميش والفقر أو عدم إيلاء الدول النامية بصفة خاصة أهمية قصوى لشريحة الشباب وعدم تأمين مستقبل مشرق لها.
وفي هذا الصدد يشرح الكاتب والسياسي حسن النيفي ضمن أطروحته التي قدمها في فعاليات الندوة الافتراضية، بأن التطرف يجسّد حالة مرَضية باتت مبعث قلق شديد لدى العالم المعاصر، والمعالجة السليمة لهذه الحالة لا تقتصر على استئصال ظاهرة التطرف فحسب، بقدر ما توجب استئصال أسباب هذه الظاهرة، للحيلولة دون ظهورها أو تجددها.
ويرجع النيفي هذه المسألة إلى ثلاثة دوافع رئيسية كبرى وهي أولا، أن المشروعات الإسلامية سواء كانت دعوية أو حزبية عادة ما كانت لها مشكلتان الأولى ثقافية، ويتجلى فيها الصراع بين آليات الفهم وطرق التفكير في مواجهة النص القرآني، ومستندة على السؤال التالي “هل تكون قراءتنا للنص القرآني محكومة بمعطيات تاريخية ومعرفية ثابتة ومحدّدة؟ أم أنها ستكون قابلة للتزوّد بما ينتجه الفكر البشري من جميع أصناف العلوم؟”.
أما المشكلة الثانية فهي قيمية أخلاقية، وتتجسّد بين نمطين من التفكير والسلوك معا، أحدهما تاريخي مُستمدّ من موروث ديني اكتسب صفة القداسة من دون أن يكون مقدّسا في الأصل، وعزّزت من قداسته منظومة فقهية تنتمي إلى العهود “الإمبراطورية”.
ويخلص النيفي إلى أن الأزمة التي يواجهها المسلمون، ليست أزمة ناجمة عن الدين الإسلامي بوصفه مُعطى ربانيا، بقدر ما هي ناجمة عن آليات التفكير البشري وطبيعة رؤيته للدين، مقترحا وجوب تجديد القراءات الدينية، بالإضافة إلى التخلي عن نظم الحكم الاستبدادية التي تكون في غالب الأحيان بمثابة الأب الشرعي للتطرف.
المواطنة بديل للإرهاب
يوجد إجماع كبير لدى الباحثين والمختصين في الشؤون الإسلامية، على أن الفكر الديني المتشدد ينجم أساسا عن الأطروحات المعادية للبحث والاجتهاد والتجديد التي غالبا ما يلتزم أفرادها باختيار القوالب الجاهزة والجامدة، الرافضة لمراعاة الزمان والمكان وانعكاساتهما على تطور الفكر الإنساني.
ويستند دعاة الفكر المتطرف على مقاربات وقراءات للفقه بطريقة جامدة لا تقبل الاجتهاد، وغير صالحة لكل زمان ومكان عبر اعتمادهم على مقولات فقهية تشرع للعنف ولم تعد صالحة لواقع اليوم.
وتتطلب كل هذه العوامل، معالجات معمقة، يمكن لها أن تفرض نفسها كبديل حقيقي للفكر المتطرف، ويقول الباحث في التاريخ أحمد طلب الناصر في مداخلاته أثناء ندوة مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي إن الخطوة الأولى تتمثّل في نشر مفهوم “المواطنة” بصورته الاجتماعية التي تضمن حرية المعتقد والممارسات السياسية والدينية، وزرع هذا المفهوم داخل الأدبيات التي تتبناها تلك المجموعات المتطرفة.
ويؤكد الناصر على أن كل هذا يتطلب دراسة التجارب التي أفرزتها وتدرّجت بتطبيقها النظم الديمقراطية الحديثة منذ بدايات عصر النهضة والتنوير في أوروبا وصولا إلى هذا اليوم.
ويشير إلى أن ردم الهوّة الشاسعة التي شكّلتها المجموعات الإسلاموية الجهادية مؤخرا بين أطياف المجتمع الواحد، لاسيما داخل مجتمعات دول “الربيع العربي”، ودعم بعضها في نفخ “ذاتها الجمعية”، يستدعي إشراك جميع الأطياف من دون استثناء في كافة الاستحقاقات التي فرضتها تلك النظم الديمقراطية التي ذكرناها، كالمشاركة في الانتخابات والاستفتاءات وغيرها من الاستحقاقات.
وللتمكن من تحقيق تلك الخطوة بصورة فاعلة، فإن المجتمعات الخارجة مؤخرا من تجارب الإسلام المتشدد، تحتاج إلى وضع قوانين جديدة ناظمة لعلاقات الأفراد والجماعات بين بعضهم البعض من جهة، وبين الأخيرين والدولة من جهة أخرى، من دون تمييز بين فريق وآخر.
إن طرح مثل هذه المقاربات على منصات الإنترنت، تعد وفق العديد من الملاحظين خير وسيلة للقضاء على فضاءات افتراضية أخرى لا هدف لها سوى الترويج لأفكار دموية وعنيفة، بحيث يصبح الولوج إلى فهم ظاهرة الإرهاب والتوقي منها بالنهل من مقاربات فكرية يعد الوصول إليها سهلا ولا يتطلب عناء التنقل إلى الندوات المباشرة التي تنتظم في فضاءات أخرى تقليدية.
ولهذا الغرض تعكف مراكز الدراسات الاستراتيجية على التعمق في هذه الظاهرة والتطرق إليها بشكل متواتر وخاصة بجعلها متاحة للجميع، حيث إنه بمجرّد الاطلاع على ندوة مثل التي قدمها مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي، يستخلص القارئ أن سبل القضاء على الفكر الإرهابي وعلى الرغم من بساطتها من الناحية النظرية، فهي تحتاج إلى إرادة مجتمعية وبالأخص سياسية، وتتلخص في نقاط واضحة منها وجوب تفكيك فكرة المؤامرة التي تروج لفكرة أن داعش صناعة غربية ومؤامرة على الإسلام.
وعلاوة على ذلك فهناك مخرجات أخرى أهمها ضرورة فصل المؤسسة الدينية الرسمية عن الدولة وجعلها هيئة دينية مثلها مثل الهيئات الأهلية الأخرى للحدّ من نفوذها، وكسر وصايتها على المجتمع، بالإضافة إلى تفعيل الجمعيات الأهلية وبناء القدرة المؤسسية لها للقيام بدور فاعل اجتماعيا واقتصاديا، في تقديمها لرؤية تتضمن آليات إطلاق حوار مجتمعي بلا قيود.
أما من الناحية المجتمعية، فإن تفعيل جانبي الاستقرار الاجتماعي الأسري وهما؛ أولا الجانب السكني، وثانيا الأمن الغذائي، قد يعدّان من أكثر العوامل الممهدة لتأسيس بيئة مستقرة لا تزعزعها الأفكار المتطرفة. أما من الجانب السياسي فإن أهم النقاط التي تبني دولة مدنية ومستقرة هو التزام الدولة بالاهتمام بشؤون مواطنيها، والعمل وفق الدستور يلغي الفوارق الاجتماعية ويفتح الآفاق للجميع، لحماية المجتمع من الانجرار وراء كابوس التشدد والإرهاب.