شتات جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر يتعمق برحيل زعيمها
استعاد الجزائريون أجواء مطلع تسعينات القرن الماضي، بعدما صدح أنصار ومتعاطفون مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بشعارات دوّت عموم الجزائر آنذاك، قبل أن يتدخل القيادي كمال قمازي، داعيا إياهم إلى التزام أجواء السكينة والهدوء امتثالا لآداب الجنازة، وعدم الانجرار إلى مشاعر الانفعال.
وظهر شتات جبهة الإنقاذ الإسلامية المنحلة في الجزائر، بمناسبة جنازة زعيمها عباسي مدني، الذي ورّي الثرى، السبت، في مقبرة سيدي امحمد بالعاصمة، حيث تدفق أنصار الحزب المحظور من مختلف جهات ومحافظات الجمهورية، معيدة بذلك أجواء تسعينات القرن الماضي إلى الواجهة.
وبشعارات “يا علي، يا عباس.. الجبهة راهي لباس”، و”عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله” انفجر الجمع الغفير الذي انتظم في محيط خيمة العزاء بوسط العاصمة، قبل أن يسير الوفد الجنائزي إلى المقبرة، في أجواء محتقنة جراء التدابير الاحترازية المتخذة من طرف الحكومة.
وشكلت وفاة القائد والمؤسس التاريخي للجبهة، فرصة لعودة شتات أكبر الأحزاب الإسلامية في الجزائر، المرتبطة بأحداث العشرية الحمراء (1990-2000)، حيث فقدت الجزائر نحو ربع مليون من أبنائها، في سنوات اقتتال بين مؤسسة الجيش ومتطرفي الجماعات الجهادية، التي لم تتبناها لكنها لم تتبرأ لا منها ولا من ذراعها المسلحة (الجيش الإسلامي للإنقاذ).
وتحولت شوارع محمد بلوزداد بالعاصمة إلى مسيرة شعبية غير معلنة انضمت إليها جموع غفيرة من الأنصار والمتعاطفين مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، استعيدت من خلالها أجواء تسعينات القرن الماضي. فرغم دعوات الهدوء والسكينة والحفاظ على الطابع السلمية، إلا أن الشعارات التاريخية لجبهة الإنقاذ كانت تردّد بقوة. وبإيعاز من الحكومة، لم يتم السماح لأبنائه من مرافقة الجثمان من الدوحة القطرية إلى الجزائر، كما منعت عناصر الأمن الرجل الثاني في الحزب علي بلحاج، من حضور جنازة قائده ورفيقه، في إطار تدابير متخذة من طرف السلطات الأمنية للحد من حركته واحتكاكه بعموم مناضلي جبهة الإنقاذ المنحلة.
وتفادت الحكومة الانتقالية الجمع بين جنازة زعيم جبهة الإنقاذ وبين الجمعة العاشرة للحراك الشعبي، حيث تعمّدت إرجاء قدوم الجثمان إلى يوم السبت، بغية التخفيف من حدة الزخم الشعبي المنتظر، بين المتظاهرين وبين الحاضرين للجنازة.
ومع ذلك طالت الحكومة انتقادات شديدة، من طرف ناشطين وسياسيين، جراء تدابيرها الأمنية الاحترازية في الجنازة.
ولم يحدث أن ظهر الوعاء الشعبي لجبهة الإنقاذ المنحلة بهذا الشكل طيلة العقود الثلاثة الماضية، بفعل الظروف والتطورات التي عاشتها البلاد، لاسيما تدابير المصالحة الوطنية التي أضفاها الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، حيث اضطرت قواعد الحزب إلى الانكفاء إلى الصفوف الخلفية طيلة السنوات الماضية.
واستبعد متابعون للشأن السياسي في الجزائر، أن يتحول شتات جبهة الإنقاذ الذي برز بشكل لافت مؤخرا، إلى محطة لترتيب الأوراق أو الانتظام من جديد، بسبب التفكك الذي شطر تلك القواعد بفعل مراجعات فكرية وعقائدية وأيديولوجية جرت في صمت، وجرّت أصحابها إلى الانكفاء.
ويشكل وزر مرحلة العشرية الحمراء إرثا ثقيلا على الكثير من رموز جبهة الإنقاذ، فذرائع اختراق واستغلال قوى خارجية للتيار الشعبي لجبهة الإنقاذ، لا تغفل مسؤولية قادة الحزب وعلى رأسهم الراحل عباسي مدني والمقربين منهم، في إرساء ثقافة الجهاد والتمرد العنيف، ودور مناضلي وأنصار جبهة الإنقاذ في حمل السلاح وارتكاب الجرائم في حق الجزائريين العزل.
وتبادل نشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي، السبت، مقتطفات من تسجيلات لعباسي مدني وعلي بلحاج، تمهد الطريق لثقافة الجهاد المسلح، والمساواة بينه وبين الجهاد ضد المستعمر، وكيف كان الأنصار والمتعاطفون يرددون مصطلح الجهاد، في أحد التجمعات الشعبية خلال مطلع تسعينات القرن الماضي.
ورغم تصريحات التعاطف حتى من طرف الخصوم السياسيين والأيديولوجيين لجبهة الإنقاذ، على خلفية تعاطي الحكومة مع جنازة المدني، إلا أنهم ذكّروا الجزائريين برصيد ومسؤولية هؤلاء في مرحلة العشرية الحمراء الدامية.
ولا يزال وعاء جبهة الإنقاذ يلتزم الصمت، رغم حالة الحراك الشعبي الذي دخل شهره الثالث، ولم يشأ هؤلاء إبراز نوايا ركوب الموجة الشعبية الحالية، عكس تأطيرهم للانتفاضة الشعبية التي حدثت في الخامس أكتوبر العام 1988، ولم يظهر هؤلاء إلا في حالات معزولة في المظاهرات الاحتجاجية بالعاصمة وبعض محافظات البلاد.
وكان الرجل الثاني في الحزب علي بلحاج، قد شدد على أنصار جبهة الإنقاذ بضرورة عدم تصدر المشهد، لتفادي الصدام المتجدد مع قوات الجيش والأمن، وتفويت الفرصة على السلطة كي لا تلبس الحراك الشعبي الثوب الإسلامي، وتسوّق صورا تبرر لها استعمال القوة والعنف مجددا.
ورفض الرجل تدخل أنصاره لتحريره مما بات يوصف لديهم بـ”الحصار الأمني ” المضروب عليه، والسماح له بالمشاركة في الحراك الشعبي، وهو ما يوحي بأن القيادي المذكور يريد الاصطفاف خلف الهبّة الشعبية بدل تصدرها، تفاديا لتكرار تجربة التسعينات.
وبرحيل عباسي مدني، تتجه الأنظار إلى الشخصية التي ستخلفه على رأس جبهة الإنقاذ، وإذا كانت جميع التوقعات تذهب إلى علي بلحاج، فإن مصادر مطلعة ترجح فرضية انقضاض حسابات الخارج على القيادة، لأن التوافقات على بلحاج غير مكتملة لدى هؤلاء، بسبب خلافات غير معلنة.