يا حبيب أمك.. لماذا تأخرت في العودة

“ربنا معاك يا بني.. روح في سلام يا حبيب أمك، ارتحت من الدنيا وبلاويها.. بدل ما تكبر وتشوف أصحاب الوجوه المظلمة العكرة كل يوم في الشارع”!

وجدت هذا التعليق مصادفة وأنا أتصفح أحد المواقع الإلكترونية لصحيفة. وكانت السيدة العربية قد تركت هذه الكلمات على خبر يتعلق بحوادث تفجيرات سريلانكا الأسبوع الماضي، التي راح ضحيتها أكثر من 300 إنسان بريء. ظهرت صورة الطفل الرقيق وهو مغطى بأردية شفافة استعدادا للجنازة، وكأنه مستغرق في نوم هادئ في غرفته المليئة بالألعاب بينما تجاوره في الصورة والدته المتوفاة وبالهدوء ذاته، وكأنها انتهت توا من إعداد طعام الغداء وقررت أن تأخذ قيلولة صغيرة لتريح جسدها المتعب من أعمال المنزل.

هؤلاء وقبلهم ضحايا مسجد نيوزيلندا.. أبرياء كثر رحلوا في حوادث إرهابية متفرقة، فلم يتركوا غصة إلا في قلوب محبيهم أو دمعة أم تشبه كثيرا النقطة التي نضعها تحت رسمة علامة الاستفهام. كل يوم، تطالعنا صور الدماء والجثث وآثار الدمار ووجوه الإرهابيين المتشفية، حتى أصبح هذا الأمر طقسا ثابتا في برنامجنا اليومي. كل منا يرى الأمر من زاويته وتبقى علامات تعجب كثيرة تدور في رؤوسنا، حتى يظهر السؤال المهم؛ ترى من سيكون الضحية التالية وماذا لو كانت أسماؤنا هي التي ستظهر على قوائم الضحايا في الحادثة المقبلة؟

هناك صنفان من البشر؛ جلاد وضحية، وهذا الأمر يكاد يكون قانون الغاب الوحيد الذي ما زال إنسان العصر الحديث يمارسه بحرفية ومهارة يحسد عليها. لكن يخرج علينا دوما هذا الصنف (الآخر) من أصحاب الوجوه المظلمة العكرة، نستطيع بسهولة أن نصادف هؤلاء في أي مكان في العالم وربما في أماكن لا تخطر لنا على بال.

أصحاب الوجوه العكرة يمكن أن يفصّلوا أحزاننا على مقاسات عقولهم الخاوية، ثم يطالبوننا بارتدائها؛ إذا كنت مسلما فلا ينبغي عليك أن تحزن على مسيحي وإذا كنت مسيحيا فلا ينبغي عليك أن تحزن على مسلم، إذا كنت فقيرا فيجب أن تشمت بموت أفراد أسرة رجل بقي وحيدا في هذا العالم لمجرد أنه ملياردير، ماذا سيفعل بالمليارات بعدما جثمت على حياته غيمة من ظلام؟

سيول الكراهية مستمرة مثل مجرى نهر غاضب، نهر عميق لا يُعرف قراره.. هذه السيول التي قدمت من أرض إيرانية، جرفت قبل أيام ما أطلق عليه شهود عيان (بقايا) جندي عراقي كان ضحية لحرب الثمانينات التي اشتعلت بين العراق وإيران قبل أربعة عقود!

بعد كل هذه السنين تعود البقايا والساعة والقلم
بعد كل هذه السنين تعود البقايا والساعة والقلم

هكذا، ببساطة، تعرفوا على الولد المسكين الذي هجر قلب أمه قبل أكثر من 37 عاما، من خلال شارة معدنية محفور عليها اسمه الكامل.. هناك أيضا ساعة وخوذة عسكرية، قلم، وقطع صغيرة من النقود المعدنية كانت هي كل ما كان يملك ساعة رحيله عن هذه الدنيا، ليتمتع غيره بملذات الدنيا والآخرة.

رحل هذا الشاب -الذي كان- بسبب قرار همجي اتخذه حمقى في لحظة قصمت ظهر التاريخ، فجعلت الطبيعة الأم تذرف دموعها الغزيرة ولسان حالها يقول “يا حبيب أمك.. لماذا تأخرت في العودة كل هذه السنين؟”.

مرة أخرى.. يظهر أصحاب الوجوه العَكرة ليفندوا الخبر “هل يعقل هذا؟ بعد كل هذه السنين تعود البقايا والساعة والقلم؟”، فيجيبهم صدى الكراهية من الطرف الآخر “لا تقولوا شهيد.. هذا قتيل حرب”!

يوما ما، كلنا.. ستجرفنا سيول الكراهية. لكن، على أيّ أرض ستطفو جثثنا يا ترى؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: